لا شك أن الآباء والأجداد كانوا ابعد نظرا ممن بعدهم وأكثر مقدرة لمواجهة مصاعب الحياة وبناء علاقات كمصالح مشتركة لتسيير أمور حياتهم اليومية ، وحين نعود للأمس القريب نجد أن طريب كمثال كان يمتلك رجالا ونساء تتجاوز اهمية انتاجهم وصناعاتهم بعض خريجي الأكاديميات النظرية حاليا، اولئك الرجال والنساء كانوا منخرطين في الصناعات الحرفية المحلية بشتى انواعها وتخصصاتها فقامت على اكتافهم وبسواعدهم حضارة الوادي وازدهرت بمنجزاتهم القرى والبوادي ولا يزال بعض اثارها شاهدا بذلك ، هم من شيد المباني وصنع ابوابها ونوافدها الخشبية وشداديخها (الشداديخ؟) وهم من تفنن في بناء السدود الحجرية ، وقد منعوا انهيارات الآبار العميقة فأحكموها بحجر دائري مرصوص لا يزال شاهدا منذ عشرات السنين ، هؤلاء الرجال هم من نفخر بجهودهم حيث حولوا خام الحديد الى أسلحة ثمينة كالخناجر والسيوف وآلات القطع الفتاكة ، وهم بياطرة (بيطار) السلاح الناري القديم وصيانته وتحديد مدى كل نوع منها ومعرفة دقة اصابتها للهدف وهذا الفن لا يتقنه حينها سواهم أو مصانع انتاجها بالغرب الصناعي خاصة في بلجيكا وكندا! ، وليس مبالغة القول انهم من تحمل العناء والمشقة للإمداد اللوجستي وتشغيل خطوط الصيانة بأنواعها كما تسمى في العصر الحديث. ولم يتوقف انتاج هؤلاء المبدعين عند حد معين فلم يتركوا صناعة ممكنة الا ونجحوا فيها كصناعة المنسوجات والملبوسات ومفارش خوص النخيل والأحذية الجلدية والدباغة بأنواعها وصناعة الأخشاب وفن النقش عليها ، كانوا حكماء في نهج حياتهم حتى بالطب حسب ما يتوفر لهم مما اكسبهم تقدير مجتمعهم والاعتماد على صناعتهم التحويلية للمواد كما تفعل المصانع وإدارات التشغيل والصيانة حاليا التي لو توقفت لتعطلت العربات وأجهزة المطابخ ومعدات الطائرات والمولدات. اولئك الرجال ومعاونيهم بطريب كانوا يمثلون خط الإنتاج الأول وميزان التقدم الزراعي والإنشائي والصيانة العامة، بمعنى انهم رمانة ضبط الحركة بمهارات كبيرة الأهمية حينذاك فقدموا للمجتمع القروي والريفي خدمات هي اساس التفاعل مع البيئة ومتطلبات الحياة، وفوق هذا وذاك كانت بيوت الكثير منهم مفتوحة لإستقبال قاصديهم ويجودون بكل ما لديهم تكريما لضيوفهم . كانوا بحق رموز للإنتاج الوطني الحقيقي، اضافة الى ذلك كانوا يتجاوزون المهنية والتخصص الى امتلاك قيم انسانية واخلاقية عالية، فكم سمعت شخصيا عن مثاليات الشيخ الجليل سيف بن محمد ال غطاط وكرمه الحاتمي وخلقه الجم، وكم سمعت عن اراء الفيلسوف حسن بن عوضه وتنبأه بغور أو انحسار الماء في آبار طريب تدريجيا من الاسفل الى الأعلى وقد حدث ، وكم رأيت فن معماري احترافي يتقنه العم المعلم مريع بن سعيد ، وكم شاهدت العم الطبيب سعد بن غثيث وهو يشيد المباني بالطين والحجر بعد تكسير الحجر وهندسته بيده وكم رأيناه يجري عمليات التجبير للإنسان والحيوان وينفذ عمليات نسف تفجيري بقاع الآبار! ، وكم من عمليات ختان للصبيان اجراها هو والعم حسين بن نومه ، وكم اندهشت لكرم العم البيطار علي بن سالم ال سريط قاهر الحديد ، وكم أعجبت بمبدع صناعة حبال الليف بأنواعها العم سعيد بن عبدالمحيي ، وكم أقف احتراما وتقديرا للسيدة الوقور الفاضلة أم صقر التي نسجت النسيج بيديها بشكل مبهر يجمع بين الجودة وفن اختيار الألوان فخدمت عائلتها بشرف وكرامة وعنفوان ينهزم دونها بعض الرجال . هؤلاء هم اصحاب المجد الحقيقي وهناك غيرهم الكثير من ابناء طريب ممن أعتذر لعدم احاطتي بأسمائهم من مهندسي المكائن ومعلمين الخياطة ومبتكرين الآلات الزراعية المختلفة ومن مهرة انتاج الأواني وغيرهم الكثير... هؤلا بجهودهم الذاتية هم عناوين الإنتاج والإبداع وبدونهم كانت حياة الناس ستتعطل آنذاك في مجالات متعددة... وهنا استنتاجين مهمين أولهما لماذا لا يكرم هؤلاء الناس بطريب سواء الأموات منهم رحمهم الله أو ممن نرجوا الله لهم بالصحة وطول العمر وجميعهم عناوين للتسامح وحسن الخلق وخدمة المجتمع؟. وثانيهما أين ابناء واحفاد هؤلاء الشرفاء ولماذا يضيعون مجدا راقيا شامخا بناه الأجداد؟ لماذا لا يطورون ذلك على اساس استثماري حديث بطريب من خلال تكوين مجموعة تجارية مشتركة لغرض استمرار الإنتاج القديم كتراث عالي الدخل المادي وتطويره الى ما يلائم مرحلتنا وقد يشاركهم فيه من يرغب من الجميع وأظن أن البلدية ستقدم لهم التسهيلات اللازمة. اليس هناك شباب بلا عمل؟ وهذه المهن الفنية لها مداخيل هائلة جدا.
التحية والاحترام لأُولئك الرجال والنساء الذين بجهودهم وتفكيرهم كان طريب عامر بالحياة، واتمنى تكريمهم معنويا من خلال احد مجالس او مؤسسات طريب.
أخيرا فإن النكبة والكبوة الحضارية والصناعية والإحباط التي يعاني منها العرب حاليا بين الأمم سببها الرئيس هو تعاليهم على غيرهم وعلى انفسهم واستهانتهم بالصناعة والحرف والتخصصات المهنية فكانت النتيجة أن تخلفوا عن الركب الحضاري وأذلوا انفسهم ولن تنفعهم الادعاءات المزورة ، ولا يمكن مقارنة صناع الحياة ومهنها وخدماتها مع صناع الموت لمجرد نعرات وثأرات مقيته.
أين من يكتب تاريخ الصناعة والمهن الحرفية والطب الشعبي واصحابها الشرفاء بطريب ؟ لماذا لا ندون ونوثق جهود وحرف المبدعين الوطنيين ونتجاهل أمور لا فائدة منها؟.
اللواء طيار ركن (م) عبدالله غانم القحطاني
(حديث السحر) شرفاء شيدوا بطريب
17/06/2016 2:51 ص
6
54565
(0)(0)
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://alraynews.net/articles/6279740.htm
التعليقات 6
6 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
علي ، جارك
17/06/2016 في 5:20 ص[3] رابط التعليق
الله يرحم هؤلاء الكوكبة كانوا مثالاً. رائعاً وأنت. جزيت الخير والنور
(0)
(0)
السقف البعيد
17/06/2016 في 11:14 ص[3] رابط التعليق
كلام من ذهب من انامل من ذهب طابت الكلمات أبا منصور نبشت ماضياً دفيناً يصعب نسيانه رحم الله من رحل وأحسن ختام من بقي …العتب ليس على احفاد أولئك المهره بل على اعراق المجتمع التي تنسب الفصائل على أساسات عرقية بغيضه وكان بعضهم شارك في قيادة القادسية او حتى شارك في حفر الخندق ..واللوم الأكبر على المقتدرين في عدم تبني الجيل الجديد من سلالة هؤلاء حتى يتم ذلك الحاجز البغيض ..كم كنت اطرب الى صوت العم علي بن سالم بن سريط عندما يزجرنا اثناء اداء عمله الشريف وكم كنت اعجب من التقاط العم سعد بن غثيث لقام الطين دون وقوع واحدة طوال يومه العملي
(0)
(0)
مريّع بن سفر
17/06/2016 في 1:04 م[3] رابط التعليق
قرأت مقالك عن المهن والخدمات في
طريب والتي أعتبرها – اندثرت واقعاً
إلا أنها لازالت في أذهان و وجدان
أصحابها ..
حبذا لو اجتمع بهم رئيس البلدية
ومنحهم جميعاً أرضاً مساحتها
تقريباً 60 في 60 متراً توزع عليهم
بالتساوي مع مزايا تمنح لهم كالحديد
والخشب وما إلى ذلك وذلك لإعادة
اكتشافهم ، وتجديد وتشجيع روح
المهن الشريفة في نفوسهم …
(0)
(0)
قالط محمد ادريس
18/06/2016 في 6:58 ص[3] رابط التعليق
مقال رائع كروعة كاتبه .
وتسمية طريب ( بالوادي ) أكثر من رائعة .
فهي الاسم القديم المتعارف عليه عند البوادي خاصة ..
وذكرت نماذج رائعة ومشرفة رحمهم الله جميعا .بينما الحقيقة أنهم كانوا كلهم يصنعون حسب معرفتهم وقدراتهم ويكدحون ويعملون بجد ونشاط .
ومع ذلك يتزاورون ويجتمعون ويتعازمون فيما بينهم .ويفرحون بالضيف والجار والغريب عند زيارتهم .ويقومون بالكرم المرضي ويبتغون به ما عند الله .لا مفاخرة ولا مباهاة ولا مهايطات .ولم يفطحون الذبائح اطلاقا .ولم يكن التفطيح من عاداتهم .بل كانو يفصلون الذبائح في طريب وجاراتها العرين والمضة وما في دأئرتيهما .
وكانت تلك الأيام وقد عاصرت بعض أحداثها من أجمل أيام حياتي .وفيها من القصص الجميلة التي لم أجدها في وقتنا الحاضر .ومهما حاول أحد ممن عاصر تلك الحقبة أن يصفها وصفا واضحا للجيل الإلكتروني الحديث فلن يستطيع إلى ذلك سبيلا .فالمسميات والمصطلحات تغيرت تماما …
فكيف ستشرح لهم عن الفلج والشطي والمحالة والعذبة والمرايدة والتكسير والدويس والذررا والحماية والعجيان والإحجام والنقح وغيرها من المصطلحات القديمة ؟؟!
لذلك كل جيل له مصطلحاته وقصصه وعبره وطريقة عيشه .فلن يدرك جيل التقنية ما اندثر في زوايا عقولنا من ذكرياتنا وحياتنا البسيطة والمليئة بالسعادة والأنس .وخاصة أيام المناسبات كالأعياد والجمعة وهم يمشون على أقدامهم للمساجد .وللا يملكون سيارات مثل حالنا اليوم .
وكانو كالإخوان رغم تباعد أنساب بعضهم .
واليوم الإخوان كأنهم أعداء في كثير من ما نسمع القصص والأخبار ..
.
طال بي الطريق بلا قصد ولكن حركت مكامن نفوسنا بحديث الأسحار يا أستاذنا العزيز أبا منصور .
(0)
(0)
فهد ابن هيف آل سلمان
20/06/2016 في 3:46 ص[3] رابط التعليق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أعجبني ذلك الكلام الجميل بعنوانه وبمضمونه لسعادة اللواء أبا منصور والذي تحدث فيه عن موضوع مهم في حقبة زمنية مضت وعن طريب ذلك الاسم الجميل بماضيه وحاضره الأجمل ولعلي أقل من أن أقيم تلك العبارات المليئه بالمعاني القويه والجميله وإنه مما يدخل إلى النفس سرورها والتفائل بمستقبل مشرق لتلك القريه الجميله والمجتمع الأجمل هو قيام أعيان ورجال طريب الأوفياء بتبني تلك المهن وإعادة صياغتها بقوالب جميله فلا تكاد تجد منجره أو محل حداده أو أماكن بيع الاطعمه والاقمشه أو الاحذيه وغيرها إلا وخلفها أحد أبناء تلك القريه الجميله بل وتجاوزوا ذلك إلى إنشاء المستوصفات الطبيه وهذا مما يدعوا إلى التفائل بمستقبل مشرق إن شاء الله تعالى لذلك فإن الأمر لا يقتصر على أصحاب المهن القدامى بل إن الأمر الآن أصبح مطلب للجميع في ظل العولمه والانفتاح على الآخر وينبغي تجاوز الوهم الخفي الذي يحول بين العزه والكرامه وبين تلك المهنه الشريفه التى تبناها الآن عقلاء وافذاذ طريب الجميله وغيرهم من القرى المجاوره والمملكه أجمع
هذا وتقبلوا تحياتي
أخوكم فهد ابن هيف آل سلمان الحرقان
(0)
(0)
محمد الجـــــــابري
20/06/2016 في 4:19 م[3] رابط التعليق
المثل يقول :- اللي ماله اول ماله تالي… والاوائل هم المؤسسون حين كانت الحاجة ماسة لما يصنعون رحمهم الله…..
واذكر ان بن غطاط بعد ان استقر بالمضة كان مصلحا ومتدينا وورعا حافظا لكتاب الله وكان يكسب قوته بعرق جبينه حلالا زلالا وكان مجلسه مفتوح وسفرته ممدودة لكل الناس على ماقسمه الله من طعام مع الترحيب الحار والابتسامه الجميله التي لاتفارق محياه رحم الله ابا علي رحمة واسعه..
احسنت ابا منصور وعسى ان يقوم الاحفاد باعادة امجاد اجدادهم برعاية البلديه والمجلس البلدي ولجنة الاهالي وسعادة المحافظ وكل من ينتمي لـــ وادي طريب…..
تحياتي
(0)
(0)