القادم من محراب الطمأنينة لصخب الرياض، والذي لا يرفع صوته إلاّ شعرًا، قال أن الأضواء تحرق وأن الابداع مكانه الظل..
عمل بصمت لا يقبل إلاّ أن يكون أوَّلا .. بعيدًا عن صراعات الشعراء وحروبهم التي تستنزف الطاقة وتحد من التقدم والإنجاز الذي يعيق عن الوصول لمصاف الشعر .. عمل وأبدع وأتقن حتى تُرجمت أعماله ودواوينه الشعرية لعدة لغات منها الإيطالية والانجليزية والصينية.. بشعرٍ حُقَّ لهُ أن يُبصَر قبل أن يُسمع..
كيف لا وقد جاءنا من أهل سوق عكاظ متأبطًا شعره .. وساهم بشكل فعال ومؤثر في الحركة الثقافية في المملكة العربية والسعودية متنقلاً في مناصب وتكاليف عدة حيث عمل مستشاراً للتحرير في صحيفة الجزيرة .. و أسس مجلة فواصل مع الشاعر طلال الرشيد (رحمه الله) مشرفًا على تحريرها وتصميمها..
إلى تأسيسه وكالة أعراف الرياض للدعاية والإعلان والنشر والإنتاج.
ضيف الرأي هو الشاعر والأديب محمد جبر الحربي.
١- تميل في شعرك إلى التبسيط حاولت تقريب الفصحى للعامة والناس.. هل نجحت في ذلك..؟
ج/ الماءُ بسيطٌ في التناولِ والتعاملِ، وفي السلاسةِ والشفافية والنقاءِ والجريان، لكنه في نفس الوقتِ معقد في تركيبتهِ الكيمائية، وفي خواصه الفيزيائية، في صفائهِ وكدره، وفي دورته الطويلة، من الأرضِ إلى السماءِ، ومن السماءِ للأرض.
كذلك الشعر، وأنا أقول: الشعر كالحُبِّ ليس له تعريف دقيق، ولا توصيف عميق، لكنه أقرب ما يكون للشجر، متشابه، وغير متشابه، له تربته المعرفية، وله جذوره الضاربة في التاريخ، وله بوصلة الاستدلال على الينابيع، وله القدرة على شق الأرض والحجارة، كما له القدرة على التشبُّث بها، والشعر كالشجر يسمو دائما نحو الشمس والأفق، يزهرُ ويثمرُ، وتغني من خشبه أعواد الدهشة، وتردد خلفه أصوات المنشدين. يقاوم الريح، ويتثنى مع النسيم، ويمزج الأضداد، فهو على سفرٍ.. ومقيم، ظلالُه خاصة ومشاعة، وفاكهتهُ مُحَلَّلَة، مُحَرَّمَة..!
من هنا أجد أن تبسيط الشعر وتقريبه دون تتفيهه، كذلك الحال مع اللغة العربية، أمر غاية في الصعوبة، يحتاج إلى موهبة حقيقية، ومعرفة كبيرة شاملة، كما يحتاج إلى ذائقة عالية تضع للمعنى الشكل الذي يناسبه، واللغة التي تستطيع حمله وتوصيله.
فالسهل الممتنع لا يتأتَّى لكلِّ الناس.. لكنني، ومن تفاعل الناس على اختلافهم مع شعري، أستطيع القول: نعم لقد نجحت في تبسيط الشعر، وتقريبه، وإشاعته، رغم أنني شاعر حديث يفترضون أنني أكتب للنُّخَب، وهنا المعادلة الصعبة، لقد كان درباً شاقَّاً طويلاً، لكنني نجحت بفضلِ الله.
٢- انتقلت للرياض وتكلمت عن شوارعها من فلل حي الضبَّاط الى شارع العصَّارات والمربع.. وأكملت إسهاباً عن فترة مراهقتك التي وصفتها بمراهقة تفور بأغاني توم جونز، وجيمس براون وطلال مداح.. وصوت محمد العلي عبر الإذاعة الإنجليزية.. وصولاً ليد معلمك محمد هيكل في “ثانوية الفيصل”.. حين جمع لك مفاتن الحياه ومفاتحها في طبق اللغة.. خليط مثل هذا كيف ساعد في تكوين الحربي..؟
ج/ الحارات مختصر مسرحي للحضارات، فحارات الطائف، وحارات الرياض كالملز، وحي فلل الضباط.. هي خليط ثري ساهم في تشكيل جمالي المعرفي، وكذلك المُعَلِّم عبر التاريخ أساس حضارة وأخلاق .. والتعرف على الآداب والفنون الغربية، واللغات والثقافات أمر ضروري للشاعر، بل للإنسان بشكل عام، وقد حظيت بمعلمين إنجليزيين في المتوسط والثانوي، فكانت لغتي مع استماعي للإذاعة الإنجليزية، معقولة ومقبولة عندما ابتعثت، وهي نافذة جميلة على العالم.
٣- تلعب على المتعة البصرية للمتلقي من خلال التوزيع الممتد للنص بتقنية بديعه تجعل القصيدة لوحة ولغة هل مايهمك الوصول مباشرة لذهن القاريء من خلال تدريب المخيلة ..!
أقول:
أَعُـودُ لِـتُــفَّــاحِ رُوحِــي وَلِـلْـكَــرْمِ حِـيــنَ تَدَلَّـى
إِلَـى طَـائِـفٍ كَـانَ مَـهْـدَاً وَمَنْ يَمْلِكُ الْمُـزْنَ نُزْلَا
وَمِنْهُ الْـكِـتَـابُ وَعَـقْـلِـيْ وَفِيـهِ الْـخَـيَـالُ.. تَـجَلَّى
وَمِـنْـهُ حَـدَائِـقُ بَـوْحِــيْ وَأَلْـوَانُ عَـيْــنٍ تَــمَلَّى
وَمَا اللوْنُ فِي الشِّعْرِ إِلَّا عُيُـونـِي تُهَــذِّبُ قَــوْلَا
أنا حريص جداً على تلوين شعري، وبث الروح والحياة والكائنات فيه، ذاك أنني أكتبه بروحي، الواقع والذاكرة والمتخيل، فأكتب القصيدة الدرامية الحولية الطويلة ذات الأصوات المتعددة، وأكتب القصيدة المكثفة، مزيج من الفلسفة والحكمة والتشكيل، وأنا مفتون منذ طفولتي بالفنون، الموسيقى والألوان، وكان للطبيعة دور كبير في تهذيبي.
كل هذا يقرب الشعر، يعلِيه كشجر.. ويدنيه كثمر، هي تلك المعادلة التي تحدثنا عنها.
٤- الحداثة الشعرية بين أقلمة مفهومها التجديدي، وسلبية التطرف الايمائي الموغل فيها هل خلق هذا انغلاقاً حديدياً أمام المتلقي وبالتالي صنع فجوة بدل قفزة للجمهور..؟
ليس من مطالب الشعر المباشرة والوضوح، ولا الغموض والانغلاق، لا إرضاء الخاصة، ولا العامة، إنما هو كل ذلك في شحنات عاطفية وعقلية أيضاً. ولو راجعتِ شعري، لوجدتِ ما يحتاج كتباً ومراجع للإلمام بإحالاتِه، ولوجدتِ ما هو جليٌّ في إشاراتهِ وقريبٌ في التفاتاته..
أنا أحياناً أتبع القصيدة لعوالمها، وأحياناً هي تتبعني لعوالمي… أنا ذاك وهذا، وهذا أنا أيضاً في كل مرة، وفي كل تجربة جديدة، وحالة خاصة فريدة.
٥- فتحت لك انجلترا نوافذ مهمة على اللغة والموسيقى، الأعراق والناس إلاَّ أن مِنحتها الأساسية وكما ذكرت كانت الغربة، ماجعلك تعيش الغربتان معاً غربة داخلية، و أخرى خارجية حتى أن تفوقك في الصف لم يمنحك التفوق على نفسك.. “هكذا قلت”..
ألم تجد أن كل هذا الضغط هو ما صنع منك محمد جبر الآن..؟
هذا صحيح، لقد شكلني مزيج من اليتم والنأي والفقد والغربة، والغربةُ غربتان: غربة الروح، يقول المتنبي:
أَنا في أُمَّةٍ تَدارَكَها اللَـ ـهُ غَريبٌ كَصالِحٍ في ثَمودِ
نعم، نستطيع القول إن الأمور التي ذكرتها دفعتني لإثبات نفسي، والتعويض، وعدم الاستسلام للظروف مهما كانت قاسية، والرغبة القوية في تحقيق أحلامي، والعودة بقوة بعد كل انقطاع.
وفي المقابل شكلني الحب والرضى والطيبة والقبول، دون التخلي عن العناد والمثابرة، والنضال في الحياة، بالعمل وبالكلمة.
٦- تكلمت فيما سبق عن “تراب الثقافة” وكيف لطبقة المثقفين ان ينفضوه ويشاركوا مشاركة حقيقية فاعلة في المهرجانات الادبية للتأثير على المجتمع حيث يجمعكم قلق القصيدة متجاوزين جغرافيات الدول نريد منك اسهاباً لهذا المصطلح..؟ ما الذي تعنيه وترمي إليه..؟ وهل المهرجانات الشعرية خدمت متخيل الشاعر ..؟
هي ليست بذاك التعقيد، ولا هذا التبسيط، بالمختصر: أرى أن المبدع إذا ما استسلم للواقع، أو أراد من الجهات الرسمية في أي بلد أن تعترف به أو تدعمه، أو تطرق بابه، أو من المجتمع أن يستوعبه فهو مخطئ، على المبدع أن يحارب، وأن يعمل بجد على مشروعه، وأن يصارع لإثبات وجوده، وذكرت المهرجانات كمثال حينها، لكن عنيت أنه عليك المشاركة، وعليك السفر طلباً للمعرفة والخبرة عليك أن لا تتوقف، وأن تجرب، وأن تغامر.
فالمبدع يصيبه الإحباط عندما لا ينجح في الوصول، أو لا ينجح في تأمين متطلبات حياته وهو المتفرغ للإبداع، أو عندما يصدمه الواقع، فعليه في كل مرة نفض غبار اليأس والإحباط والكآبة، ومواصلة مشواره ومشروعه.
٧- في قصيدة المغني قلت:
فمن ذا سيرفعُ رعبَ العبارة عني؟!
هل تطويع الفكرة رعب..؟! وهل يكمن ذلك في محاولة الشاعر أن يمنطق الأشياء حتى تفلت من أصابعه الكثير من جماليات فكرته أو فلسفته..؟!
أم يتجاوز ذلك؟
كنا، أشبه ما يكون، بمن يخوض حرباً، حرباً حقيقية، على أكثر من صعيد، هذه الحرب قد تودي بحياتك، بسمعتك، وبرزقك.
ليس هناك مكان للطيبة أو حُسْن النية، فأنت في حرب، وأنت مسؤول عن كلمتك وعبارتك، والكلمة الصادقة قد تكون مرعبة في أوقات وأحداث معينة.
وربما كنت تريد أن تقول لكن في فمك ماء، وهكذا..
وأحياناً قد يكون في عدم البوح رعبٌ وألم، وفي البوحِ كذلك رعبٌ وألم.
*وهل يكمن ذلك في محاولة الشاعر أن يمنطق الأشياء حتى تفلت من أصابعه الكثير من جماليات فكرته أو فلسفته..؟!
أم يتجاوز ذلك..؟
هنا تكمن عبقرية الشاعر، في الاختزال والتكثيف والإحالة والترميز، واستخدام موهبته وخياله، للوصول بإبداعه إلى أقصاه من جهة، وإلى توصيل فكرته أو أفكاره من جهة أخرى.. هذه هي عظمة الشعر.
٨- رسائل الشعراء والأدباء فيما بينهم ثروة عظيمة وتراث ذو بعد إنساني.. هل تم تغييب أدبيات جمع الرسائل ونشرها عمداً هنا على غرار رسائل نازك الملائكة مع عيسى الناعوري ، قاسم عجام وجواد الحطاب، محمود درويش مع سميح القاسم، غاده السمان وغسان كنفاني اناييس نن وهنري ميلر ، نزار قباني وكريم العراقي الخ..؟
الرسائل فن في غاية الرقي والدفء، وهي حديث أرواح، تحمل من الصفاء والدفء ما تحمل، وتحمل من الحب والجراح ما تحمل.
وهي عالم خاص ثري ومدهش، والمشكلة لدينا أنه لا يوجد دور نشر محترفة تخرج علينا بأفكار جديدة كل عام، ولا جهات تعتني بتنويع نتاجها،
معظم الدور، ومعظم الجهات تمشي على نفس الخطى، ولها نفس البصمة،
العمل الثقافي بحاجة إلى رؤية جديدة، وأفكار جديدة.
أنا كتبت “رسائل لأمريكا” و “رسائل الياسمين”، وهي محفوظة لدي منذ سنين، وإن لم أصرف عليها، وأنشرها شخصياً، لا أظن أن جهةً أو داراً أو أحداً يكترث..!
وهذه مشكلة كبيرة، وهي أن تضحي بالوقت لتبدع، ثم تضطر للصرف على نشر إبداعك، الأمر أقرب للمهزلة، لأنك خسرت مرتين.. ومن ناحية ثانية مؤلم أن يطرق المثقف أبواب الجهات بمشاريعه الإبداعية، ثم لا يجد إلا الرفض، وفي أحسن الأحوال التسويف، هي أمور أقرب ما تكون للمهانة.
لكني أعود فأقول: إن علينا المثابرة والصبر على الروتين، وسيكتب الله ما لا نعلم.
٩-كانت المقاهي قديماً تحل مكان الصالونات الأدبية والندوات الثقافية فيخرج الشعر من الشارع وسط الناس ويُسمع.. مجالس مثل هذه كانت تثري الحراك الإبداعي الصالونات الأدبية الآن في الواقع الافتراضي هل هي حاجة أم ترف..؟ أم أنه ماضي وجب أن يُعاد بهيبته القديمة..؟
أنا مع الواقعي لا الافتراضي، الافتراضي يسهل علينا ويساعدنا، لكن الحياة بدفئها تكون مع الناس وبالناس، والمقاهي أساس وقصة حضارات وحركات ثقافية، كذلك الصالونات العريقة. بكل تأكيد أنا مع عودتها بما يتناسب مع حاضرنا ويستقي من ماضينا وجمالنا.
١٠-“يقولون إن الشوق نار ولوعة فما بال شوقي أصبح اليوم باردا” هكذا استفز حافظ ابراهيم رزانة وهدوء احمد شوقي..حتى رد عليه امير الشعراء أجمل ماقيل من بديع التوريه بأبيات في نهايتها:
“وأودعت إنساناً وكلباً وديعة.. فضيَّعها الإنسان والكلب حافظ”.. تراشقات كهذه نجدها بينك وبين مَن مِن الشعراء…؟
هذه، وغيرها من الإخوانيات، تحتاج إلى شخصيات لديها هذا الحس الساخر، ولديها العلاقات، وكان من الممكن أن تكون بيني وبين عدد كبير من الشعراء العرب، لكننا اكتفينا بالرسائل البريدية، التي ذكرتِها في سؤال سابق، وأنا أجد أن الرسائل أعمق، وأكثر تاثيراً وفائدةً.
فيما عدا حالة أو حالتين لا تستحق الذكر.
١١- يقول رومان جاكوبسون إن” الشعر بحكم تعريفه لا يُستطاع أن يترجم وليس بممكن إلاّ نقله نقلا خلاّقا إلى القول باستحالة الترجمة الأدبية عامة..
فالنص المُترجَم هو نص قائم بذاته لا علاقة له بالنص الأصل.. مايلزم الترجمان بحذف وإزالة بعض التبعات التي يلزمها اللفظ الاصليّ فهو هنا لا يقول الشيء نفسه..!
ترجمة الشعر هل هي سرقة مشروعة وخيانة أنيقة للنص..؟ أم هي إخضاع وترويض للغة بيد المترجم..؟
الترجمة خير وشر، فهي مهمة للتقريب بين الحضارات، ووسيلة لتحصيل المعرفة ولنقلها، ورسم صورة عن الأدب في أي مكان، وهذا كله خير.
لكن ترجمة الأدب خيانة بالفعل للنص الأصلي، خاصة الشعر، ولكنها خيانة لا بد منها. لكن هذا لا ينفي وجود مترجمين عباقرة يطوعون اللغتين، فهماً ونقلاً، وإبداعاً.. وبشكل شخصي أفادني الاطلاع على ترجمة الآداب العالمية كثيراً، سواء كشاعر، أو كمسؤول ثقافي.
١٢- قصيدة أتعبتك كثيرًا قبل ولادتها الأخيرة..؟ كيف عشت سريالية هذا الشعور .. وكم مكثت..؟!
لدي قصائد حولية كتبت خلال عام أو أشهر طويلة، أتركها وأعود لبنائها، على سبيل المثال “خديجة”، “يمين الوقت”، “حديث الهدهد”، قصائد درامية ملحمية، متعددة الأصوات.
وهناك قصائد طويلة وملحمية كتبت خلال أيام، وقصائد كتبت في لحظتها.
وبكل تأكيد هناك مشاريع لقصائد استعصت علي، ولم تنجح.
أنا بطبعي لست بعجول، وأكره أن أُسْتَعْجَل، خاصة فيما يتعلق بالعمل الإبداعي، فأنا أحاول دائماً أن لا أستعجل النشر، وفي أحيان كثيرة أتخوف.. وأتررد في النشر لسبب أو آخر، وهذا يترك وقتاً للقصائد لتتعتق.
أعتقد أن من المشاكل التي يواجهها الشباب اليوم التعجل في النشر، خاصة مع وجود الوسائط الاجتماعية.