مهم إلقاء الضوء على الجوانب الإيجابية لبعض الشخصيات الوطنية التي جاهدت طويلاً ثم غادرت الميدان بهدوء حينما قيل لها شكراً، لقد حان وقت التقاعد. وبغض النظر عن حجم التأثير أو مستوى المسؤولية التي أحدثتها أو تبوأتها تلك الشخصيات في أي مجال، فإن العبرة هي بمستوى النجاح الذي تحقق وكذلك خدمة المجتمع والولاء للدولة خلال رحلة العمل سواء بالمواقع القيادية أو بغرف التخطيط والعمليات وتنفيذ سياسات التدريب ومهامه ..
* *
في الأربعين عاماً الأخيرة بالمملكة هناك نماذج “محترمة” أفنت ثلاثة ارباع حياتها في العمل بتميز ويفترض تخليد عطاءها ولو بإطلاق إسم أحدهم على قاعة إجتماعات كان يعمل بها أو مدرسة أو منشأة كان هو صاحب فكرة بناءها، هؤلاء يستحقون الإشادة والثناء وهم ونحن معهم على قيد الحياة.. ولهم بصمات يجب توثيقها، فقد صنعوا النجاح وخلقوا بيئة تنافسية مثمرة، إضافة الى قدراتهم لحل ما أمكن من العقبات والتغلب على المحددات. ومن هؤلاء القادة اللواء الطيار الركن عبدالله بن محمد الغرير. (متقاعد)..
* *
اللواء عبدالله الغرير عمِل بالقوات الجوية الملكية السعودية لعقود من الزمن، وكان قريب من الجميع بشكل مختلف وعلى طريقته الخاصة، فحاز على تقدير القادة الآخرين وعلى ثقة المرؤسين وخاصة الجنود الذين حمل شيء من همومهم، وفعَّل الأنظمة لحل مشاكل بعضهم وتحسين مساراتهم الوظيفية، وهذا ضمن ماتوجه به قيادتنا الحكيمة لكل من يُكلف بمسؤولية مهما كانت.
* *
والعنصر الجوي بتدريبه الخاص هو قريب من مجتمعه وخاصة الفنيين ومشغلي الطائرات ومهندسيها، لكن اللواء “الغرير” أضاف بعداً إنسانياً آخراً باحترامه الشديد للجنود وضباط الصف وصغار الموظفين، وكثيراً ماكان يتواجد معهم متجاهلاً للبيروقراطية التي كان يعلم أنها أحياناً تعيق التواصل المنطقي أو تؤخر الإنجاز . وفي نفس الوقت له مكانة مرموقة بين زملاءه القادة بالقوات العسكرية وغيرها بالدولة..
**
يهتم اللواء عبدالله الغرير بعامل التوقيت كبقية القادة الجادّين، وقد يتصل مباشرة أو ينسق مع أصغر موظف ليتأكد من دقة المعلومة أو لمعرفة تلك لجزئية العملياتية المهمة التي قد لايسمح الوقت بإنتظار تفاصيلها عبر سلسلة القيادة الطويلة وتعقيداتها..
واللواء الغرير من القلائل الذين تم إختيارهم لقيادة جميع الوظائف والمهام التنفيذية الرئيسة بالقوات الجوية، القيادية والإدارية والعملياتية والمعلوماتية والأمنية. وعلى رأس العمل كان لديه شبكة علاقات ممتازة على الجانب الإجتماعي والمؤسسي المدني والعسكري فسخرها لخدمة الناس بشكل عام وخاصةً مجتمعه بالقوات المسلحة حين كان يتنقل بين وحداتها بقواته الجوية.
**
لكن قيادته لقاعدة الملك فهد الجوية بالطائف كانت منعطفاً كبيراً في حياته العملية، وحين غادرها لتولي مهمة أخرى لم يُرى أكثر منه تأثراً في ذلك اليوم، وهذا طبيعي فالقادة حينما ينجحون تعصف بهم مشاعر مختلطة من الإنتصار والفرح والحزن والخوف معاً، مع أنهم يحاولون عبثاً إخفاء ذلك.
* *
لم أتعرف عليه عن قرب إلا وهو في مسؤوليته ومحطته الوظيفية الأخيرة بالقوات الجوية. ألزمنا بالتخطيط بمفهوم متطور يناسب التحديث وبالتنسيق مع الآخرين، أخفقنا في تحقيق المطلوب في الزمن الذي حدده لنا بنفسه!، ويومها كان يتأهب للسفر لقاعدة الملك فيصل الجوية بتبوك، قال لنا في الإجتماع إكملوا العمل فليس هذا المستوى المطلوب، وسأغادر وأنا غير راضٍ عن هذا الآداء، وربما لأن الصورة لم تكن واضحة بالقدر الكافي لديكم ولهذا لم تتغلبوا على المشكلة التي واجهتكم بإداراتكم.. ثم أخذ حقيبته وأوراقه وودعنا مغادراً للمطار.
* *
لست مهتماً هنا بأكثر من القاء الضوء على وقفات محدودة تذكرنا بقائد متفاني، وفِيّ، ومخلص لبلاده وقواته وزملاءه.. أخبرني زميل تشرفت بالعمل معه أنه ذات صباح طلب من اللواء عبدالله دعم لبرنامج جديد يحتاج لتمويل عاجل، ويبدو أن القائد أقتنع بنجاعة العمل فقال له التمويل جاهز بناءً على طلبك لتطوير النظام، لكن الزميل تراجع وطلب فرصة زمنية للمراجعة، وبعد يوم جاء للغرض نفسه فقال له اللواء عبدالله، لقد تم اعطاءه لإدراة أخرى مديرها زميلك فلان!، وعليك الإنتظار. (كم أضعنا من الفرص السانحة حتى في التحصيل المعرفي والعلمي!).
* *
هاتفني من مكتبه بالقيادة الساعة السابعة والنصف صباحاً في يوم ثلاثاء من شهر شعبان عام ١٤٢٨ للهجرة، وكنت بقسم تابع لإدارة تتبع لمسؤوليته وقال، نريدك قائداً لجناح مهم بقاعدة الملك عبدالله الجوية، وعليك التفكير والإستخارة وإفادتي خلال ساعة وبناء على جهوزيتك سأطلب الإذن من قائد القوات لأنتقل فوراً للغربية ومقابلة قائد القاعدة هناك سمو الأمير اللواء منصور بن بندر بن عبدالعزيز. . فهمت أن كلامه هو بمثابة أمر لكن بصيغة التشاور وبإسلوب قيادي يُشعرك بروح الفريق الواحد.
اللواء الغرير قريب من نفوس الناس وصديق لكل من يلتقيه وأخ موجه لمرؤسيه. كان يمارس الرياضة بلياقة جيدة وخاصة كرة القدم التي يعشقها ويمارسها حتى وهو برتبة لواء، وكان ضمن فريق كروي تنشيطي مؤقت بالقوات الجوية، ويتمرنون بملعب نادي ضباط القوات المسلحة بالرياض وبحضور الفريق هنيدي واركاناته حينها. (وما هي قيمة الحياة بلا لياقة وبلا رياضة تداوي النفس وتقوي البدن وتزيل الضغوط).
* *
حين سألني يوماً بمكتبه نقلت له أنه لايوجد جديد كمُخرج لعمل اللجنة المُشكلة التي كنت عضو بها، ففاجأني بإن إتصل بالفريق محمد العايش (نائب القائد حينها) رحمه الله، وذهبنا سوياً لمكتبه وشرح له عمل اللجنة بناءً على ماقلته له، وطلب الفريق المزيد من الإيضاح، ثم قال إستمروا والخطة “ب” هي التي ستنفذ.
**
تميز هذا القائد المحترم الناجح اللواء عبدالله الغرير بصبر لا حدود له حتى وهو في وضع صحي مختلف، لم يتغير أبو محمد ولم ينكفئ بأي شكل. وحقيقةً نحن أمام شخصية قيادية خاضت تجارب مختلفة، ورافقته الكثير من النجاحات، وحين لازم السرير لم يهتز معنوياً ولم ينهزم نفسياً ولم يضعف ولم يعتزل الحياة بل يتواصل مع الناس بنفس روحه المتسامحة المعروفة والمتفائلة كما عرفناه،، وهو الذي يبادر بالتواصل أحياناً مع الغير.. متابع لكل أحداث الحياة ومُلم بكل التطورات والمتغيرات العالمية ومستخدم جيد للتقنية ولايزال.
**
اللواء عبدالله الغرير مصدر إلهام لكل الذين يريدون الإنتصار في معارك الحياة التي ليس لها نهاية إلا بنهاية العمر.. رجل يسكن الوطن الكبير بقلبه النابض بحب الناس.. وللقوات الجوية في وجدانه وتفكيره وحيطان منزله وألبوماته الحيز الأكبر وستظل..
له التحية والشكر الجزيل على ماقدم لوطنه وعلى هذه الروح الباسمة وهذه الإرادة الإيمانية القوية التي منحه الله إياها ..
**
عبدالله غانم القحطاني
لواء طيار ركن متقاعد / باحث دراسات أمنية واستراتيجية.