بشرق طريب كان هناك ينبوعا جاريا على مدار العام ، وعلى جانبي جريانه يوجد أحراج خضراء على شكل نباتات قصيرة اضافة الى قليل من شجر النخيل المتباعد ، المكان يسمى زبيبة ولا أظن أن هذا الإسم يستخدم حاليا، وهو يقع الى الشرق من طريب وتحديدا شرق جبال الضيران وأبو دجرة وابو حبال وقد لا أكون دقيقا في المسميات لقلة خبرتي بذلك ، ولكن المهم أنني وقفت على هذا النبع العجيب مرتين ومعي أخي علي ونحن في الصف الثالث والثاني الابتدائي تخمينا ، فقد ارسلنا الأهل الى هناك سيرا على الاقدام بعد ان وصفوا لنا المكان والطريق اليه! وكان برفقتنا نحن الإثنين وبنفس أهميتنا مصدر الطاقة الحيوي الوحيد بالمنزل وهي البقرة دوشه! والغرض هو إيصالها الى مجرى النبع أو (الهجلة) كما يسمونها وتركها هناك لسببين الاول انه انتهى حليبها ولم تتلقح والثيران متوفرة هناك وعاطلة بلا عمل!(تكتيك)، والسبب الآخر هو توفير غذاءها اليومي لغيرها بالمزرعة طيلة اشهر قادمة (إقتصاد) ، كنا ونحن بالطريق حقيقة خائفين لكثرة سماعنا بوجود الذئاب في تلك الجبال ، وقد أخافنا كذلك الهدوء التام ونحن نسير بالطريق بعد تعود مسامعنا على حركة العمل واصوات مكائن ابار القرية صباح مساء فحاولنا طرد الخوف بالمناداة بأصوات عالية لكن يرتد الينا الصدى متموجاً بين الجبال فيزداد خوفنا! ، وصلنا ضحىً الى مكان النبع أو العين وما أن رأت صديقتنا البقرة اخواتها حتى انساقت امامنا بحماس بعد أن كان أحدنا خلفها والآخر يقودها وربما لولا معرفتها بنا وعطفها علينا لتركتنا بمنتصف الطريق وعادت لمربطها بعسفة الجدار الخارجي أو لغرفتها الخاصة بها بعمق الدار!(العسفة قطعة خشب منحنية مغروزة في جدار المنزل من الخارج). المهم أننا حين وصلنا الماء ورأيناه بهذا الشكل لأول مرة بأعمارنا القليلة اصابتنا الدهشة والاستغراب لأن المكان بشكله خارج حدود تفكيرنا وأكثر من قدرة استيعابنا ،فالماء يجري بصفاء شديد وأصوت الصرار والطيور عالية جدا بل ومزعجة ،وأمام اعيننا عشرات الأبقار غزالية اللون وهي منتشرة وقد يصل عددها الى المائة بقرة دون مبالغة وهي تأكل وتشرب وتتطارد على شكل قطعان . ربما لم آتي بجديد وهناك اماكن اخرى مشابهة ، والفائدة من المقال تكمن في أن جميع اصحاب القرى والهجر في طريب والعرين وقيان والهجرتين والجوف يضعون ابقارهم في هذا المكان للأسباب نفسها ويتركونها بلا رعيان ولا حراسة ثم يعودون اليها بعد ثمانية اشهر تقريبا فيجدونها بخير وأمن وحالها أفضل مما كان ولم يمسسها أذى ولم يقترب منها عابث أو سارق أو هامل ، والغريب أن كل شخص يأتي لأخذ ثوره أو بقرته لا يخطئ ولا يأخذ غير ما يملك . عدنا الى ذات المكان بعد اقل من عام وكان موسم الأمطار قد حل فوجدنا نبع زبيبة اكثر غزارة واسرع جريانا واقل ابقارا فقد كان قدوم المطر مبشراً لأصحابها بعودتها فالأرض مخضرة والكلأ متوفر وربما حان وقت حليبها بعد حملها ووضعها!. لم ارى ذلك المكان ثانية حتى الآن ولكن الماء قد انقطع واصبح غوراً والشجيرات المائية اندثرت ولم يتبقى من الابقار الا ذكراها ، ولو كان هناك الآن بقرتين فقد لا يجدها صاحبها بعد ساعتين لغياب ضمائر البعض، ولا اتوقع أن المكان ذاته باقٍ على وضعه السابق كأثر جميل فقد عبث الإنسان بالطبيعة ودمرها برغبته. وكيف لي ان اقنع طفلا من ابناء طريب حاليا بأنه على مسافة سبعة كيلومترات تقريبا من القرية كان هناك ماء يجري كالنهر وحياة دائبة تضم الحيوان والاشجار والطيور والزواحف ،ويأتيها الإنسان كزائر فقط لوضع انعامه أو اخذها وهي بلا راعي؟.( الصورة من قوقل لنفس المكان).
اعتقد أن جيلنا شاهد مالم يتاح لغيره مشاهدته خلال ثلاثة قرون خلت، حيث عايشنا تناقضات ،وتطورات ،وحروب ، وصناعات ،وتغير بيئي رهيب ومخيف ، وتدهور فكري ، وتقدم علمي! وتحول من حفاة على الأرض الى محلقين بأحذية مخصصة للسير في الجو!. سبحانك ربي ما أحكمك. تقبل الله صيامكم وقيامكم..
اللواء طيار ركن (م) عبدالله غانم القحطاني
نبع زبيبة بطريب
27/06/2016 3:16 ص
4
49658
(0)(0)
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://alraynews.net/articles/6281604.htm
التعليقات 4
4 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
محمد الجـــــــابري
27/06/2016 في 3:15 ص[3] رابط التعليق
الاحراج الخضراء تسمى “نمص” وصورة قوقل معبره وتحاكي ما كان…ولله حكمه فيما الت اليه “الهجلة” وما طرأمن تغيرات على نفوس الناس..اتوقع لو ان “الهجلة” على وضعها السابق لرأيت مصانع تعبة المياه الطبيعيه والموتيلات على جانبيها لكن شاء الله ان تجدب الارض وتقسى القلوب ويطغى حب التملك على ابن الباديه اكثر من غيره وطارت ارزاق البشر والطيور الى ان يشاء الله .. حفيه تاريخيه جميله بماكان فيها من متاعب الا انها لا تعوض .. كان الناس يتركون حلالهم في وداعة رب العباد والخير والامطار تتجدد بتواتر عجيب وفي اوقاتا منتظمه وكان الناس يثقون ببعضهم البعض ولا يعتدون ولا يسرقون ولا يتحاسدون ….الحقية ابا منصور انك تسعى لتثقيف من لايعلم كيف عاش الاباء والاجداد ليستفيد منها النشء الحالي .. فعسى ان يتدبروا ما تريد ان يصلوا اليه… اشكرك وكل عام وانت بخير وصحه وسعادة…
تحياتي
(0)
(0)
عبدالله بن سعيد القحطاني
27/06/2016 في 3:51 ص[3] رابط التعليق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ان لحديث السحر شوق كبير جدا وكأني مع المقال أخذتني الذكريات للايام الجميلة التي عشتها ايام الصغر ايام الاكتشاف ومعرفت مايدور حوله من أشياء حلوه لي اول مرة يراها في حياته وقد تغير الاسم فقد اصبح زمن الطيبن نعم انه زمن الطيبه والمحبه الصادقه التي فقدها البعض منا فكان الانسان امين طيب ومحب اللاخرين
شكرًا ابامنصور والله يحفظكم
(0)
(0)
سعيد بن عبيد آل مقبل
27/06/2016 في 1:23 م[3] رابط التعليق
بالفعل اخي عبدالله رجعتنا بوصفك الدقيق لعقود مضت وذكراها الجميله الخالده ما اطيبها هو كما يقال الزمن الجميل رغم شح معظم الأشياء ولكنها حياه بسيطه مريحه لا تعقيد فيها واهتمامات الناس محدوده تكاد تكون مهمتهم في إيصال البقره الى الهجله من المهمات المهمه والتي كما ذكرت تعود بالنفع على كامل الاسره وكل الباحثين عن القشد شكرًا ووفقك الله مقال جميل
(0)
(0)
مساعد الطويل
27/06/2016 في 5:26 م[3] رابط التعليق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نشكر الاخ عبدالله كل الشكر على هذا المقال الرائع الذي ذكرنا بزمن فعلاً سموه زمن الطيبين واتذكر جدي الله يرحمه عبدالله بن مانع يوم ارسلنا ببقرته في ذلك المكان وكان طيبة الناس في ذلك الوقت وخوه بينهم وكل منهم يسال الثاني عن وصف بقرته بالهجله وهل شفتاه ام لا
عموماً نكرر شكرنا للكاتب ولزمن الطيبين الله يرحمنا ويرحمهم ويسكنهم في جنات الخلد يوم ذكرناهم
(0)
(0)