في يوم (٢٣ سبتمبر) من كل عام، تحتفل المملكة العربية السعودية بيومها الوطني وتستعيد فيه أجمل ذكرى مرت على السعوديين وكل من يقيم على أرضهم. ذكرى توحيد البلاد وبناء أعظم مشروع وحدوي وإنشاء دولة عصرية بحجم قارة. والشيء بالشيء يذكر، ففي عام (٢٠١٣م) كنت مبتعثاً للدراسات العليا في بريطانيا، وكان على جميع الدارسين اختيار قائد استراتيجي بشكل فردي وتقديم ورقة عمل وإيجاز عنه ضمن المطاليب الدراسية. وكان الشرط الأهم لهذه الورقة أن يكون من القادة في (الألف) عام الأخيرة، كما أن على الدارس أن يبرر اختياره بشكل موضوعي. وقع اختياري على شخصية الملك عبدالعزيز -رحمه الله- لقناعتي بتميز هذه الشخصية التي غيرت وجه الجزيرة العربية استراتيجياً، أرضاً وإنساناً، من نقطة تقترب من الصفر إلى دولة ضمن مجموعة العشرين الأقوى تأثيراً في القرار العالمي في وقت وجيز في تاريخ الدول والحضارات.
لم يكن سهلاً عليّ التسلل خارج العباءة الوطنية ولو لبعض الوقت لغرض عدم الانحياز، وفي ذات الوقت لم يكن صعباً إقناع الحاضرين المشاركين من (٥٤) دولة بالملك عبدالعزيز كقائد استراتيجي نموذجي، فمقومات هذه الشخصية وإنجازاتها التاريخية التي فرضت احترامها على المحيط الإقليمي والدولي، فرضت نفسها أيضاً في المنافسة حيث تم اختيار ما قدمته وقتها من أفضل ثمانية إيجازات عن القادة الاستراتيجيين، حيث خضعنا للتصويت الذي حظي فيه زميلي (موهان) من الهند بالمركز الأول حين تحدث عن (غاندي) القائد الملهم الذي يحظى بشعبية ضخمة في الأوساط البريطانية والأوروبية على وجه الخصوص.
سيرة هذا الوالد المؤسس -رحمه الله- تزخر بالمنجزات التي تنعم بها المملكة العربية السعودية إلى اليوم وانعكست على المنطقة العربية بأسرها، بعد أن قيضه الله تعالى في وقت كانت شبه الجزيرة العربية ترضخ تحت وطأة الجهل والفقر والمرض والخوف وتهميش الأتراك لها في أواخر حكم العثمانيين، واهتمام المستعمر البريطاني والفرنسي بأطراف الجزيرة العربية ذات الريع والثروات آنذاك. وعندما نتحدث عن تأثيره الاستراتيجي على المحيط العربي فإن ذلك يتضح من خلال مركزية تأثير السعودية على القرارات والتوجهات العربية والإسلامية سياسياً وجيوسياسياً واقتصادياً ودينياً وثقافياً. هذه المركزية قدر وليس اختياراً، وهي تزداد أهميةً مع تنامي تنوع العلاقات الدولية الثنائية والجماعية ومع استعادة السعودية لزمام قيادة المنطقة نحو التنمية والتصدي لمشاريع الهيمنة الأجنبية التي تحاول فرضها القوى الإقليمية والدولية على المنطقة العربية.
وبالعودة للتركيز على شخصية الملك عبدالعزيز نجد أنه كان يتحلى بكثير من سمات القيادة ومهارات الإدارة التي تحدث عنها الكثير ولست بصدد الحديث عنها هنا، ولكن في معرض اختيار الملك عبدالعزيز كقائد استراتيجي، نجد أنه رحمه الله كان يتمتع بمقومات استراتيجية كانت عوامل مهمة جعلت المملكة تنطلق في مسار استراتيجي مختلف ومميز، يمكن تلخيص أهمها فيما يلي:
1. كان ذا رؤية وإصرار على تحقيقها. إذ كان الملك عبدالعزيز يرى مملكته الموحدة ذات الأطراف المترامية والغنية بالعوامل البشرية التي راهن عليها في الوقت الذي كانت القوى الكبرى في صراع على الموارد، وكانت الجزيرة العربية لا تتعدى كونها إمارات صغيرة لا تحمل مقومات الدولة العصرية.
2. تحالف مع الكبار. جنب الملك عبدالعزيز دولته الصراع في الحرب العالمية، وكسب ثقة الدول العظمى وعمل شراكات استراتيجية مع بريطانيا وأمريكا تحديداً، مما يدل على بصيرته وقراءته لمستقبل القوى وقوة التواصل الاستراتيجي لديه.
3. قائد الحرب والسلم. قاد حروب التوحيد في كل اتجاه داخل الجزيرة العربية، فلما تحقق الهدف وطد الأمن في الطريق إلى الحج أولاً ثم في داخل الدولة عموماً وأنشأ القوة العسكرية والأمنية اللازمة لذلك، وأصبح السلم هو القاعدة والوطن هو الأم الحاضنة للجميع. كما ساهم بفاعلية في مؤسسات المجتمع الدولي، إذ كانت السعودية من الدول ال(٥٥) التي أسست لميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو عام (١٩٤٥م).
4. رجل دولة. بنى مؤسسات الدولة الحديثة وأنظمتها بالاستفادة من تجارب الدول المتقدمة وجلب الخبراء لهذا الغرض. وبدأ بتوطيد علاقات دولته الحديثة دبلوماسياً بالدول الأخرى في المنطقة والعالم، بينما لا زالت بعض دول المنطقة تقبع تحت الفكر الميليشياوي أو القبلي أو الحزبي أو الأيديولوجيات المتنافرة إلى اليوم!
5. القرار المبني على الشورى. وضع المؤسس نصب عينيه أموراً مثل العدل واستدامة الحكم واستقراره حتى مع تقلب الأوضاع في المحيط السياسي والجيوسياسي. لذا فقد استند في القرارات ذات التأثير الاستراتيجي إلى الشورى كمبدأ إسلامي في الحكم، وأنشأ (المجلس الشوري الأهلي) في مكة عام ١٣٤٣هـ/١٩٢٤م، مما أسس لفكرة وتنظيم مجلس الشورى الذي نشهده اليوم.
6. ملهم للتفكير الإبداعي. كان يفكر بطريقة استثنائية ملهمة. فبعد اكتشاف البترول في البحرين مثلاً، جلب الشركات الأجنبية المتطورة وأبرم الاتفاقيات معها للتنقيب عن البترول، مما شكل سبقاً في الوقت الذي لا تزال فيه الدولة في بداية قيامها وبالرغم من معارضة بعض معاونيه للفكرة وعدم استيعابهم لها آنذاك.
وبعد، فإن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- كان وما زال حاضراً في وجدان كل سعودي، وسيبقى كذلك. هو الرمز المعجزة الذي استطاع بإيمانه بالله ثم بشعبه أن يوحد البلاد تحت راية التوحيد في جهاد لم ينقطع حتى توفاه الله، رغم التحديات التي واجهته، التنموية والبيئية والسياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، داخلياً وخارجياً. مارس الملك عبدالعزيز القيادة الفاعلة التي بنت جيلاً بعد جيل، ومارس الإدارة التي مكنت دولته من استخراج أفضل كنوزها المتمثلة في عقول أبنائها قبل استخراج كنوزها من باطن أرضها. وقد تحدث الشرق والغرب عن (ابن سعود) وعن دولته المعجزة التي تزخر بنفس روح القيادة الرشيدة التي ورثها أبناء المؤسس من والدهم الفذ. وتعرضت السعودية لحملات تشويه إعلامي مغرضة على مدى عقود ولا تزال تتعرض لها لأسباب لا يتسع المقام لبحثها، ولكنها ستبقى السعودية منارة للأمن والسلام ومعقلاً للهدى وموطناً للشيم والقيم للعرب والمسلمين والعالم أجمع بإذن الحي القيوم.
اللواء ط/ر/م عيسى بن جابر آل فايع
باحث/ ش الاستراتيجية والأمن الدولي