«ألا أونه.. ألا دوه.. ألا تريه» هكذا ظل يصرخ منادي المزادات العلنية، ببسمته الصفراء، وعنقه الناحل الطويل، ونظرته اللئيمة الجشعة، التي لا تميز بين زبون وسارق، فكلهم عنده سواسية، والأفضلية بينهم لأول من يرفع يده للموافقة على الصفقة.
وعلى شدة الخراب من حوله، فإنه كان يقف مهتزاً على بقايا جدارٍ متهدم، ويمسح قطرات الدماء عن يديه، والغبار الرمادي يكسوه، وأصوات الانفجارات تغيبُ صوته من حين إلى آخر، ولا يلبث أن يداري بيديه شقوقاً في بدلته، ثم يقرع بمطرقة مكسورة على طاولة المزاد، التي يوزع من فوقها النفائسِ.
وكان الحضور مختلطاً متناقضاً، فبعضهم من الطبقة المخملية، جاءوا يجرجرون ثياب عزتهم كالطواويس، وبعضهم من التجار «الأونطجية»، ممن تعرف من تقليبهم للبضائعِ بأنهم لا يمتلكون ثمنها، ولكنهم يتحايلون، ويمكُرون، وبعضهم أشعث أغبر كسكان الكهوف الحجرية، وبعضهم يرتدي الملابس العسكرية المبقعة، وبعضهم تميزه بعمامته، أو بغترته، أو طربوشه.
ويرفع المنادي صوته المبحوح، وهو يعرض طفلاً رضيعاً للبيع، فهو بلا أب ولا أم، بل إنه بلا تاريخ، بعد أن وجِدَ باكياً حول جُثة أمه المتفحمة في الحي القريبِ.
ويأتي الدور على صبية في عمر الزهورِ، بقوامها الأهيف، وشعرها المتموج، وبضاضتها، وحمرة خد تزيد من لمعتها الدموع، حيث وجدت على الحدودِ وهي هاربة من جور قصفٍ وقع على ضيعتِها، لتنجو بجراحها بعد أن شهدت مصرع كل من له علاقة أسرية معها.
وتزداد حدة المنافسة على البضائع، فالأسعار اليوم أقل الأسعار، والمتوفر من الحرائر، والأطفال والحرفيين من أجود ما عرض في المزادات العالمية من قبل.
ويأتي الدور على طبيب، ومهندس، وممرضة، ومبرمج، ومعلم، وحلواني، كلهم تم بيعهم بأرخص الأثمان، «يا بلاش» فالإنسان هنا يباع بقيمة التكلفة.
والبيع يتجدد، والعرض مستمر، والحال يستقطب السماسرة من شتى الأصقاعِ، فالبضاعة الحية لا يمكن مقاومة إغراءات سمسرتها الجزلة!.
وتشتعل المزايدات، وتكون هذه المرة لبيت مُتهدم، نفق صاحبه حسرة بالسكتة القلبية أثناء غربته، عقب مشاهدته له من خلال التليفزيون، وهو ركام على سطح الأرض، بقذيفة حاقدة لا تميز بين ثكنة ومنزل.
بل إن المزايدة قد طالت «بيارات»، ومزارع، وضِياعاً في القرى الخالية من أهلها، بعد أن سُحق أكثرهم، ورحل من نجا منهم ليبحث عن خيمة تأويه خارج الحدود.
وتتصاعد قيمة المزايدات، وتتقاطر العربات الفاخرة، وينزل منها أصحاب قبعات «الشموا»، والسيجار الثمين، والنظارات الأنيقة، نعم لقد حضروا جميعاً ليزايدوا في قيمة العطاء، فالمعروض هنا ليس فقط الإنسان المنتهكة حقوقه، ولكن المعروض وطن بكامله، وطن كان من أقدم الحضارات الإنسانية على وجه الأرض، وها هو اليوم يباع بقائم سوقه.
فلكِ الله يا أرض سوريا، ولك الله يا شعبنا الشامي المنتهك المستباح، لقد اِضْطهَدوك الظالمون، ثم باعوك، في المزاد العلني بتراب الفلوس.
[/B][/SIZE]
08/07/2013
فُتِح المَزاد
لا يوجد وسوم


وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://alraynews.net/10702.htm