على مدار عقدين من الزمن انتظر المصريون ثمارا لما سمي بالإصلاح الاقتصادي، ولكنهم وجدوا في النهاية ارتفاعا في معدل البطالة وصل لنحو 15%، وكذلك ارتفاعا في معدل التضخم اقترب من 18%.
والأمر من ذلك خط الفقر الذي انضوى تحته نحو 25% من سكان مصر. أما الفساد الذي ساد كافة أرجاء الجهاز الإداري للدولة، فحدث ولا حرج.
فقد وصل عدد قضايا الفساد بهذا الجهاز سنويا لنحو سبعين ألف قضية. وتقدر خسائر مصر بسبب الفساد بحوالي ستة مليارات دولار سنويا. بينما قدر البعض حجم اقتصاديات الفساد في مصر بنحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي.
وانعكس هذا كله في وجود مؤشرات اقتصادية مضللة تم العبث بها لإيهام المواطنين بأن هناك ثمة إصلاحات اقتصادية.
ولا يغيب عن أحد ممارسات رجال الأعمال في تسقيع الأراضي والمضاربة عليها مما بدد ثروات كبيرة. وبعد أن حصل رجال الأعمال على كافة المزايا من ضرائب وجمارك وأسعار شديدة الانخفاض لأراضي ومرافق الدولة، اتجهوا للتجارة وأهملوا الصناعة، مما جعل من مصر مجرد سوق للمنتجات الأجنبية وعلى رأسها السلع الصينية.
كما ظلت حكومات عهد مبارك تعلق أداءها السلبي اقتصاديا على شماعتي الزيادة السكانية، والأزمات الاقتصادية والسياسية على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
الملامح العامة للاقتصاد المصري
يبلغ عدد السكان في مصر حسب تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء نحو 79.9 مليون نسمة، تشكل الفئة العمرية 15 سنة فأقل نحو 34%، والفئة العمرية الشبابية من 15 – 35 سنة نحو 35%، أما الفئة العمرية من 15 – 65 سنة فتقدر بنحو 62.2%، والسكان في عمر 65 سنة فأكثر تقدر نسبتهم بنحو 4%.
”
وصل عدد قضايا الفساد سنويا نحو سبعين ألف قضية، وتقدر خسائر مصر بسبب الفساد بحوالي ستة مليارات دولار سنويا
وتعكس هذه التركيبة السكانية أمرين، الأول فئة الشباب –صانعو الثورة-وما تفرضه متطلباتهم من تحديات على صانع القرار الاقتصادي، والثاني أن السكان الذين يمثلون قوة العمل في الفئة من 15 – 65 سنة تمثل 62%، وهو ما يتطلب وضع خريطة واضحة للاستفادة من قوة العمل في النشاط الاقتصادي.
كما بلغ الناتج المحلي الإجمالي لمصر في العام المالي 2009/2010 نحو 1.2 تريليون جنيه، ووصل معدل النمو الاقتصادي لنفس العام 5.1%. وثمة شكوك بشأن معدل النمو الاقتصادي من حيث طريقة حسابه.
ويقدره البعض بأنه في حدود ثلثي الأرقام المعلنة من قبل التقارير الحكومية. كما يلاحظ أن قطاع الخدمات هو صاحب النصيب الأكبر من حيث مساهمته في الناتج المحلي لاستحواذه على ما يزيد عن 50%، مما همش مساهمة قطاعي الصناعة والزراعة، وهما القطاعان اللذان يتيحان فرص عمل حقيقية ودائمة ويشكلان قدرا من القيمة المضافة. وترتفع مساهمة قطاع الخدمات لما ينطوي عليه من خدمات التعليم والصحة، التي تقدمها المؤسسات العامة.
ويعاني الاقتصاد المصري منذ فترة طويلة من حزمة من المشكلات المزمنة، ومن أبرزها ما يلي:
1- عجز الموازنة العامة الذي يبلغ في حدود 9%، والدين العام الذي وصل إلى أكثر من تسعمائة مليار جنيه مصري في شقه المحلي، ونحو 32 مليار دولار في شقه الخارجي. وتكبد هذه الديون الموازنة العامة للدولة نحو 173 مليار جنيه، عبارة عن أقساط وفوائد، وهو مبلغ ضخم، يفوق مخصصات التعليم والصحة، كما يبلغ قرابة ضعف مخصصات الأجور التي تقترب من تسعين مليار جنيه.
2- تأتي البطالة لتمثل واحدة من معضلات الاقتصاد المصري، وتختلف التقديرات حولها، حسب المنظور وطريقة الحساب، حيث تراوح بين 10% و15%, ويرجع الجزء الأكبر منها لنظم التعليم التي لا تربطها بسوق العمل أية سياسات، فيجد صانع السياسة الاقتصادية أنه مطالب سنويا بما بين سبعمائة ألف و750 ألف وظيفة سنويا.
3- توصف الموازنة المصرية بأنها موازنة استهلاكية تصرف معظم بنودها على النفقات الجارية، وتقل فيها الاستثمارات العامة، بسبب التوجه الحكومي بعدم الدخول في استثمارات عامة جديدة، باستثناء بعض المخصصات للمرافق العامة.
وثمة أمر مهم وهو قضية الصيانة، حيث تخصص مبالغ زهيدة لا تتناسب والقيمة الحقيقية للأصول الرأسمالية المملوكة للدولة، فمخصصات الصيانة في عام 2009/2010 تقدر بنحو 3.4 مليارات جنيه، أي أقل من 1% من حجم الموازنة لنفس العام.
4- لا يجبر ميزان المدفوعات إلا الإيرادات الريعية المتمثلة في البترول، الذي يمثل 50% من الصادرات المصرية، ويحقق نحو عشرة مليارات دولار سنويا، والسياحة التي تحقق نحو ثمانية مليارات دولار، وعوائد العاملين بالخارج التي تقدر بنحو 6.3 مليارات دولار، وقناة السويس التي تقترب إيراداتها من 4.8 مليارات دولار.
ومن هنا فالميزان الجاري هو الذي يحقق فوائد عادة في ميزان المدفوعات المصري، بينما الميزان التجاري لمصر لم يعرف سوى العجز على مدار العقود الثلاثة الماضية، وعادة ما كانت الصادرات لا تشكل سوى 50% من الواردات. ففي عام 2009/2010 بلغت الصادرات 23.9 مليار دولار، بينما الواردات بلغت 49 مليار دولار. حيث تستورد مصر العدد والآلات ومستلزمات الإنتاج وقطع الغيار.
5- تمثل الإيرادات الضريبية عدم عدالة السياسة الضريبية المتبعة خلال الفترة الماضية، حيث يدفع الموظفون نحو 9.5 مليارات دولار، والنشاط التجاري والصناعي قرابة 4.5 مليارات.
”
بلغ الناتج المحلي الإجمالي لمصر في العام المالي 2009/2010 نحو 1.2 تريليون جنيه، ووصل معدل النمو الاقتصادي لنفس العام 5.1%.
”
وفيما يتعلق بضرائب شركات الأموال التي تقدر بـ62 مليار دولار، فإن هيئتي قناة السويس والبترول تدفعان نحو 39.9 مليارا منها، والباقي وهو 22 مليارا موزع بين شركات الأموال للقطاعين العام والخاص، أي أنه على الرغم من المزايا العديدة التي تمتع بها القطاع الخاص فإن مساهمته في الضرائب محدودة للغاية. أما الضرائب غير المباشرة، التي من أبرز صورها الضريبة العامة على المبيعات فقد بلغت نحو 28.7 مليار جنيه، بعد أن كانت في منتصف التسعينات نحو أربعة مليارات جنيه فقط لاغير.
الرؤية الإصلاحية
مع نجاح ثورة 25 يناير في القضاء على نظام مبارك، تتطلع مصر إلى أداء اقتصادي مختلف، يجعل منها دولة قوية اقتصاديا وسياسيا. واقع يحقق آمال الشباب، الذي لا ينحصر فقط في تلبية مطالبهم في الحصول على العمل والخروج من دائرة الفقر، ولكن واقعًا جديدًا يجعل من الأداء الاقتصادي لمصر. وجها جديدا، يكرس مبدأ تقديم أهل الخبرة على أهل الثقة ويكبح الفساد، ويصنع إرادة سياسية واقتصادية، تستغني بها مصر عن المعونات ولا تخضع للتبعية أو وجود شبهة تأثير على قرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولكي تتحقق هذه الأهداف نطرح مجموعة من المحاور التي تصلح لبلورة رؤية إصلاحية ينطلق منها الاقتصاد المصري، وهي:
– سيادة دولة القانون
لقد نُحي القانون جانبا في حياة المصريين خلال عهد مبارك ووجدت الآلاف من الأحكام القضائية التي لا يستطيع أصحابها تنفيذها للحصول على حقوقهم، مما أوجد نوعا من فقدان الثقة في النشاط الاقتصادي ومجتمع الأعمال.
وقد كانت حكومات مبارك النبراس الذي اهتدى به الفاسدون لتنحية القانون وعدم تنفيذ الأحكام القضائية، وأصبحت هناك قوانين أخرى غير مدونة في منظومة القانون المصري، ولكنها تحكم النشاط الاقتصادي، من خلال العلاقات بين رجال الأعمال والسلطة. فلا بد أن تكون هناك عملية فصل حقيقية بين السلطات، وعدم وجود أي تأثير سلبي على السلطتين التشريعية والقضائية، حتى تعود الثقة إلى الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
– المؤسسات المالية
تضم المؤسسات المالية في مصر الجهاز المصرفي، وسوق الأوراق المالية، وشركات التأمين… إلخ، وينبغي أن يعاد النظر في دور كافة هذه المؤسسات في ضوء إستراتيجية تنموية جديدة.
فالجهاز المصرفي الذي يضم ودائع تبلغ أكثر من تسعمائة مليار جنيه، ويبحث عن مصادر لتوظيف نحو 48% منها ولا يجد، عليه أن يتجه لتمويل مشروعات إنتاجية مدروسة بشكل صحيح، وأن يقلل من سياسته الحالية المعتمدة على التجزئة المصرفية. وكذلك الابتعاد عن الائتمان السياسي واسترداد قروض رجال الأعمال الذين حرصوا على عدم السداد، أو السداد من خلال تدوير القروض، وتهريب أموالهم للخارج.
كما يتطلب الأمر عملية تمويل حقيقية للمشروعات المتوسطة والصغيرة. وفيما يخص سوق الأوراق المالية، التي يبلغ رأسمالها السوقي في آخر أيام التداول قبل إيقافها نحو 445 مليار جنيه مصري، فهناك مجموعة من الإجراءات والسياسات التي تعمل على تحويل البورصة المصرية إلى بورصة للاستثمار وليس للمضاربة، فيكبر فيها سوق الإصدار ويتضاءل سوق التداول، ويتم التوجه نحو الشفافية في التعاملات لجميع المتعاملين على حد سواء، وأن تلغي بعض التعاملات مثل البيع في نفس الساعة أو اليوم، وكذلك إلغاء بيوع المشتقات وأن تكون هناك ضرائب تصاعدية على أرباح المتعاملين بالبورصة وإن كانت بمعدلات صغيرة.
وعن دور شركات التأمين فإن رصيدها الاستثماري ينبغي أن يوجه الجزء الأكبر منه إلى استثمارات مباشرة، وليس إلى البورصة، بما يساعد على خلق فرص عمل جديدة، على أن يكون ذلك في ضوء التزاماتها تجاه عملائها، وأن تعمل من خلال خطط تسويقية مدروسة لتسود ثقافة التأمين لدى المصريين.
”
الميزان الجاري هو الذي يحقق فوائد عادة في ميزان المدفوعات المصري، بينما الميزان التجاري لمصر لم يعرف سوى العجز على مدار العقود الثلاثة الماضية، وعادة ما كانت الصادرات لا تشكل سوى 50% من الواردات
”
-الاستثمار
الاستثمار هو المحرك الرئيسي لأي نشاط اقتصادي، وقد شهدت مصر خلال الفترة الماضية وجود ترسانة من التشريعات الاقتصادية التي تشجع على مساهمة القطاع الخاص، ومساهمته في النشاط الاقتصادي والتنموي. ولكن المردود من هذه الإصلاحات كان ضعيفًا. وينبغي أن تركز سياسات الاستثمار مستقبلا على قطاعي الصناعة والزراعة، واستعادة ما فقدته هذه القطاعات خلال الفترة الماضية، وأن تكون مشاركة القطاع الخاص قائمة على أسس صحيحة.
كما افتقدت مصر لسياسة صحيحة تجاه الاستثمار الأجنبي المباشر، فلم تكن هناك أجندة وطنية، تحدد احتياجاتها ودور هذه الاستثمار، فتوجه معظمها نحو قطاع البترول والاستحواذ على الشركات الوطنية، وكذلك نشاطي العقارات والسياحة.
ولم تسهم هذه الاستثمارات في خلق فرص عمل بالقدر المطلوب نظرا لاتجاهها إلى الأساليب الكثيفة رأس المال بينما مصر تحتاج حاليا للاستثمارات الكثيفة العمل لاستيعاب العاطلين والداخلين الجدد لسوق العمل.
وحسب آخر التقديرات فقد بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في عام 2009/2010 نحو 6.7 مليارات دولار. والمطلوب بعد ثورة يناير أن تأتي هذه الاستثمارات وفق احتياجات التنمية، وأن تعطى من المزايا بقدر مساهمتها في جلب التكنولوجيا والصادرات وإتاحة فرص العمل، وعدم مزاحمة الصناعة الوطنية.
– الاستفادة من المجتمع الأهلي
28 ألف جمعية أهلية مسجلة لدى وزارة الضمان الاجتماعي، وينبغي الاستفادة منها في جهود مكافحة الفقر والبطالة، وتوجيه هذه الجمعيات إلى الاهتمام بالعمل التنموي لإحداث تغيير حقيقي في حياة الفقراء ومحدودي الدخل، وبخاصة أن جهود العمل التطوعي ستكون عالية في إطار أداء شباب الثورة، الذين أحسنوا الأداء طوال فترة اعتصامهم في ميدان التحرير.
ومن الضروري ربط أنشطة المجتمع الأهلي بخطط التنمية في مصر في إطار تخطيط تأشيري، ووجود قاعدة بيانات تخص إمكانيات ومجالات عمل هذه الجمعيات.
– إعادة النظر في تخصص موارد الموازنة العامة
ثمة مشكلات كبيرة في تخصيص موارد الموازنة العامة للدولة. ينبغي أن يعاد فيها النظر ليكون التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، مجالات ذات أهمية خاصة، وأن يعاد النظر في المخصصات التي كانت تنفق على الأمن بغرض تأمين النظام الدكتاتوري، وأن تقتصر على ما يعد أمنا حقيقيا للوطن.