في قريةٍ نائيةٍ، وفي بيتٍ ريفيٍّ بسيطٍ يفتقرُ لكلِّ مقوماتِ الرفاهيةِ.. أطبقَ الليلُ قبضتهُ على أركانهِ وزواياهُ وسادَ صمتٌ رهيبٌ لا يقطعهُ إلا وقْعَ خطُواتٍ حائرةٍ تسيرُ مجيئًا وذهابًا.. تقفُ تارةً وتتحركُ تاراتٍ لشخصٍ توشحَ بالظلامِ.. فجأةً مزّقت سكونَ الليلِ صرخَة بريئَة معلنة ميلادَ (عليّ ) فارتفعتْ همهماتٌ وتراتيلٌ حمدًا للهِ من الرجلِ الطاعنِ في السنِّ.. الذي جثَى على ركبتيهِ سجودًا لربه؛ فقد رُزق أخيرًا بمولودٍ بعدَ صبرٍ وطولِ انتظار، رغمَ تعددِ زيجاتهِ التي انتهتْ جمِيعها بلا أطْفال!
حتى اقترنَ بزوجتهِ هذهِ والتي هي الأخْرى لم تنجبْ بعدَ أن خاضتْ تجربةَ زواجٍ استمرتْ عشرةَ أعوام!
مضت بهما السنوات سريعةً وهما يراقبانِ طفلهُما يكبرُ أمام عينيْهما.. طفلٌ كانَ سمعَ والدَيه وبصرهُما.. لا ينامانِ حتى ينام، ولا يأكلانِ حتى يأكل!
نشأَ عليّ مُدللا.. طلباتهُ أوامر، ورغباتهُ مجابة بلا تردُّد؛ مما جعلَ منه شخصًا نرجسيًّا لا يهتمّ لأمر أحدٍ إلا نفسه!
يرى والدتهُ المتعبةَ بالكادِ تنهضُ لتحضرَ له ما يسدّ به جوعهُ فلا يحرّك ساكنًا.. فقدْ اعتادَ أن تأتيَ له الأشياءُ لا أن يذهبَ إليها!
التحقَ بالمدرسةِ القريبةِ من سكنهِ وكانَ والدهُ يحملُ عنهُ حقيبتهُ ليوصلهُ صباحًا.. ويعودُ بعد الظهرِ فيحمِلها مرةً أخرى شفقةً على فلذةِ كبده!
تعوّد أن يكونَ محطَّ أنظارِ زملائهِ الطلبة؛ فكلّ ما تشتهيهِ نفسهُ يأتي به، ووالدهُ يكدّ ويكدحُ ليلَ نهارَ كي يوفرَ له ما يحتاجه، ونبوغهُ في دراستهِ زادهُ غرورًا وتعاليًا على أصحابهِ!
لم يكنْ ينغّص عليهِ عيشهُ سوى حالةَ والديهِ المترديةِ ماديًّا وفقرهُما، حيثُ يشعرُ بالحرجِ حين يُكتشف أمر حاجتِهما حتى لجأَ للتظاهرِ بعكسِ ذلكَ ليبدوَ أمامَ أقرانهِ في المدرسةِ أنه ينتمي إلى عائلةٍ ثريةٍ!
أصبحَ متغطرسًا ومتمردًا على والديه.. مارسَ عليهِما أشدّ أنواعِ الضغطِ حتى قرّر مغادرةَ قريته التي احتضنتْ قصةَ كفاحِ والديه؛ فالقرية لا تليقُ به!
اضطرّ والدهُ للاستدانةِ والخروج من قريتهِ التي ألِفها وغادرَ إلى المدينةِ مرغمًا وسكنها وألحقَ عليًّا في إحدى مدارسها.
لم يكن عليّ راضيًا عن وضعهِم المَعيشي.. يتحاشى أن يتكلمَ مع أصحابهِ عن أحوالهِ الشخصيةِ، وظلّ يوهمُ أقرانهُ أنه من عائلةٍ مرموقةٍ وغنيةٍ حتى وهو يفقدُ والدتهُ إثرَ مرضٍ عضالٍ ولم يتبقَّ له سوى والدهُ المسن!
استمرّ في دراستهِ حتى تخرّج من الجامعةِ طبيبًا مرموقًا رغم عقدتهِ الأزليةِ المتمثلةِ في خجلهِ من فقرِ والدهِ الذي أفنى حياتهُ في تربيتهِ وتعليمهِ!
ذاتَ صباحٍ وبعدَ أن غادرَ عليّ منزلهُ إلى المستشفى الذي يعملُ به، شعرَ والدهُ بوعكةٍ جعلتهُ لم يعدْ قادرًا على تحملِ آلامه؛ فنهضَ بتثاقلٍ وخرجَ يطرقُ بابَ أحدِ جيرانهِ طالبًا منهم -بخجل- أن يأخذوه حيثُ يعملُ ولدَه الدكتور (عليّ)، وحينَ وصلَ إلى المُستشفى لمحهُ عليّ من زجاجِ النافذةِ قادمًا يتوكّأ على ذراعِ جاره فنهضَ مسرعًا وأشارَ للممرضة -والتي لا تعرفُ أنّ القادمَ والدَ الدكتورِ المَاثل أمامَها- أن تقولَ للمريض: الدكتور عليّ ذهبَ لاجتماعٍ في مستشفى آخر.. وتوارى في غرفةٍ أخرى!
كوَّم والدهُ بجسدهِ الهزيلِ المُنهك على أحدِ المقاعدِ.. لمْ ينفكّ يسأل ويردّد بصوتٍ مرتعشٍ وعينينِ زائغتين: “أين الدكتور علي؟! أين الدكتور علي؟!” حسْبما لقّنه ابنه !
فجأةً سقطَ الرجُل ليسرعَ من حولهُ لنقلهِ إلى غرفةِ الطوارىء؛ لتقدمَ له الرعايةَ الطبيةَ إلا أنه لفظَ أنفاسهُ الأخيرةَ وهو ينادي: عليّ عليّ…!
كانتْ صدمةُ الأطباءِ والممرضاتِ عنيفةً وهم يعرفونَ أن صاحبَ هذا الجسَد النحيْل والدَ الدكتور عليّ المتغَطرس!
لم يجرؤْ أحدهُم على الذهابِ له لإخبارهِ بموتِ والدهِ..
لكن في لحظةٍ تقدمتْ المُمرضة التي تعلَم أين يختبئُ الدكتور عليّ وذهبتْ إليه وبهدوءٍ استأذنتْ وفتحت بابَ المكتب؛ فرأتهُ قدْ أدارَ ظهرَ مقعدهِ للبابِ محدٍّقًا في زجاجِ النافذةِ وكأنما يترقبُ خروجَ والدهِ من المستشفى ليعودَ لممارسةِ عملهِ!
نطقتْ الممرضة:
– دكتور عليّ : والدكَ آآ
– ماذا ؟ طرحَ السؤالَ وبَدا عليهِ توتّرٌ وحرَجٌ شديدانِ..
– والدكَ كانَ متعبًا جدًّا وأظنهُ سقطَ ووو
– ومَات؟
– نعمْ دكتور!
بكلّ خجلٍ وندمٍ نهض عليّ من مكانهِ وتقدمَ نحو البابِ وبدأ يجري اتصالاتهِ بمعارفهِ يطلبُ منهم أن يحضروا للمسْتشفى لمساعدتهِ في إنهاءِ إجراءاتِ نقلهِ ودفنهِ.
كانَ يحاولُ ألا يظهرَ عليهِ أثرٌ للندمِ الذي يمزّقه من الداخل .. بكى ندمًا أكثرَ ممّا بكى حزنًا وهو يمسكُ بيدِ والدهِ النحِيلة ذات العروقِ البارزةِ.. قرّبها من شفتيهِ وقبَّلها قبلةً لم تأتي في الوقتِ المناسبِ.. ولنْ تتهيأ له في وقتٍ آخر!
تذكَّر لحظاتِ تخرُّجهِ من الجامعة.. حين أسرعَ له والدهُ مستبشرًا بعيونِ تفيضُ منها دموعُ الفرح:
– عليّ لقد أصبحتَ دكتورًا! أنا فخورٌ بك!
همسَ لنفسهِ بتوبيخٍ قاسٍ: وما فائدةُ الشهادةِ يا أبي وهي لم تعلمني كيفَ أعتني بك.. وفي آخرِ لحظاتِ عمرك!
سامحْني يا أبي!!
نجحَ عليّ في أن يكونَ طبيبًا، لكنهُ سقطَ في وحلِ الغطرسةِ وقبلها سقطَ في اختباراتٍ عدة: البرّ، والإنسانيّة، والمهنيّة…!
03/09/2020 3:58 ص
وَأُغْلِقَ البَابُ..!
بقلم: فيض
بقلم: فيض
لا يوجد وسوم
(0)(1)
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://alraynews.net/6521207.htm