
أثارت سيرة معالي وزير البترول الأول في المملكة عبدالله بن حمود الطريقي الاهتمام من الدارسين والباحثين والصحفيين ما بين غلو والاطناب في شخصيته إلى القدح والنقد ولم تسلم شخصيته من هجوم بعض الصحافة الغربية إثر عمله على توطين القطاع النفطي في البلاد وآخر كتاب صدر عن هذه الشخصية الوطنية النزيهة ما كتبه المؤلف د.عبد الله بن إبراهيم الطريقي بحكم الصلة والقرابة واطّلاع على تفاصيل حياته الذي تناول سيرة «معالي وزير البترول الأول في المملكة العربية السعودية عبدالله الطريقي (1337- 1418 هـ) قراءة تحليلية في فكره وسلوكه» وأجرت (الثقافية) لقاءً معه للحديث عن سيرة معالي الوزير عبدالله الطريقي ونشأته وحبّه وانتمائه لوطنه وقيادته وتفنيد كثير من الشائعات حوله، وكتب في بواكير شبابه عن سيرة المؤسس الملك عبدالعزيز يرحمه الله، وتحدث المؤلف عن دراسته وابتعاثه وعمله في مجال النفط بعد عودته من الدراسة والابتعاث ونال ثقة القيادة الرشيدة في المسئولية عن ملفات أرامكو والسعي نحو توطين قطاع النفط..
إعلان
الخطوات الأولى
– في البداية نود قبل أن نستذكر سيرة معالي أول وزير للبترول أن نأخذ ملمحاً عن البيئة والتاريخ التي أوجدت لنا مثل هذه الشخصية وأثارت اهتمام الباحثين والمؤلفين والصحفيين للكتابة عنه؟
– إن بلداً، كالمملكة العربية السعودية، لم يكن شحيحاً في عطائه ونتاجه، بل هو أرض خصبة، أنتجت الطيبات والطيبين، فكما تدفق فيها النفط، أو الذهب الأسود في منتصف القرن الرابع عشر الهجري، فقد احتضنت منذ آلاف السنين الرسالات والنبوات، وكان خاتمتها الرسالة المحمدية التي انطلقت في القرن السادس الميلادي، من مكة ثم المدينة، وخرّجت آلاف الرجال والنساء، فانتشروا في الأرض، وأضاءوا أرجاءها ومنذ نحو ثلاثمائة سنة ولدت الدولة السعودية الأولى في وسط الجزيرة العربية، بزعامة الإمام محمد بن سعود، وبالتحالف مع مجدد الدعوة الإسلامية في نجد، الشيخ محمد بن عبدالوهاب، واستمرت الدولة بين مدّ وجزر، حتى ظهرت الدولة السعودية الثالثة في مطلع القرن العشرين الميلادي، بقيادة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل، والتي أعادت قوتها ومجدها من الصفر، حتى باتت دولة عصرية كبرى، ما زلنا نتفيأ ظلالها، بحمد الله، وبتوفيق من الله واكب ميلاد هذه الدولة ظهور رجال أفذاذ قام على سواعدهم بناء الدولة، ومن ثم نهضتها، سواء أكانوا سياسيين أم علماء شريعة، أم جنوداً بواسل، أم مفكرين وأدباء، أم متخصصين في مجالات شتى، أم غير متخصصين، وكان معظمهم خريج مدرسة الملك عبدالعزيز وعبقريته الفذة.
ولعل من أبرز هؤلاء الخريجين شخصية هذه الدراسة، معالي الشيخ عبدالله بن حمود الطريقي، وهو شخصية فذّة، تضاف إلى مئات الشخصيات المتميزة، التي أنجبتها هذه البلاد، لكن ما يثير العجب، أن شخصاً كالطريقي، ولد ونشأ نشأته الأولى في موطن لم تتوافر فيه عوامل النجاح، ذلك أن منطقة نجد كانت حتى ما بعد منتصف القرن الرابع عشر الهجري، تقوم على سواعد أبنائها، وجهودهم الذاتية، وعلى الموارد الطبيعية المحلية، وكان كثيراً من أبنائها منهم العلماء والشعراء والمبدعون في مجالات مختلفة، أسهموا في بناء وطنهم الصغير، والكبير، والأكبر، وما من شك أن الطريقي كان من أميز ذلك النتاج، كونه رجلاً عصامياً، خرج نفسه بنفسه، وتخصص في مجال نادر في زمنه، وهو الجيولوجيا، وبذل في سبيل ذلك جهوداً متواصلة، ووقتاً ثميناً من عمره، كيما يتأهل، ثم باشر العمل فكان القوي الأمين، ثم واصل العطاء المطرد خارج نطاق المسؤولية الرسمية، حتى تجاوز السبعين من عمره.
شخصية جدلية
– كُتب عن معالي الدكتور عبد الله الطريقي العديد من الدراسات والكتب والمقالات، هل من إضافة جديدة لكتابك حول هذه الشخصية التي أثارت الجدل ما بين المدح والقدح؟
– لم يكن الطريقي بالرجل المغمور، ولا الغريب على القراء العرب، بل هو الرجل المعروف، المشهور في حياته، كما بات محل العناية من لدن الكثير من الباحثين، بعد وفاته. وقد تناولته الأقلام مدحاً وقدحاً، وتعددت فيه الآراء والمواقف في حياته، حتى نسبت إليه النقائض.
ولكأني به عند ذاك يردد بلسان حاله أو مقاله قول المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
لكنه بعد رحيله تكاد تجتمع عليه الكلمة، بأنه الرجل الأمين.
وإذن، وما دام الطريقي بهذه الشهرة المحلية والعربية، بل العالمية، فما الحاجة الداعية للكتابة عنه؟ وما الإضافة الجديدة التي ستضاف هنا؟
والحق أنه قد كتبت عنه كتابات مختلفة وجادة.
الانتماء والوطنية
– انتماء معالي الوزير عبد الله الطريقي وحبّه لوطنه دفعه للكتابه منذ بواكير شبابه عن المؤسس الملك عبدالعزيز يرحمه الله؟
– كتب مقالة جميلة في مجلة المدرسة بعنوان: (ابن السعود.. الرجل الذي أيقظ شعباً من سباته، وشيّد صرح دولة).
وقد كتبت المقالة بأسلوب رشيق، نوّه فيها بعبقرية الملك عبدالعزيز وبطولاته كما دافع عن عقيدة الدولة التي قام بتجديدها الإمام محمد بن عبدالوهاب، وبمساندة من الإمام محمد بن سعود، وأن هذه العقيدة ليست بدعة ولكنها تجديد لما كان عليه السلف.
وفي السنة التي أنهى فيها المرحلة الثانوية، التحق بكلية العلوم، قسم الكيمياء والجيولوجيا، بجامعة الملك فؤاد (جامعة القاهرة) فيما بعد.
ويبدو أن هذا الالتحاق بالجامعة جاء بعد موافقة سامية من جلالة الملك عبدالعزيز، بناء على ترشيح واقتراح من الشيخ فوزان السابق لما رأى فيه من التميز والمواهب المتعددة.
من هنا جاء التوجيه الملكي لوزير المالية بالموافقة على ابتعاث الطريقي، لإكمال دراسته الجامعية في مجال أحوج ما تكون إليه الدولة، وهو الجيولوجيا، ليتم ابتعاثه بعد ذلك لأمريكا لإتقان هذا التخصص.
وواصل دراسته العليا، لينهيها في أقل من سنتين، مع إعداد بحث عميق بعنوان: (جيولوجيا المملكة العربية السعودية)، حيث أنهاه في شهر ذي الحجة 1366هـ، وقد أهداه إلى (حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود)، وترجمه بنفسه إلى اللغة العربية بإذن من سمو الأمير فيصل بن عبدالعزيز، -آنذاك- نائب الملك عبدالعزيز على الحجاز.
وبعد إنهاء دراسته الماجستير، دخل دورة تدريبية مدتها سنة لدى شركتي تكساس، وكاليفورنيا، أفاد منها خبرات دقيقة في مجال النفط، وبهذا يعدّ الطريقي أول طالب سعودي يتخرج في جامعة أمريكية.
الدراسة والابتعاث
– بعد عودته من الدراسة والابتعاث؛ تدرج في عمله حتى أصبح مستشارا عند المؤسس الملك عبدالعزيز في مجال النفط.. وكلفه الوزير عبد الله السليمان بملفات أرامكو.. بودنا لو تسهب عن هذه المرحلة؟
– عاد الطريقي إلى بلاده، وقد تفجرت فيها ينابيع النفط، منذ خمسة عشر عاماً، تغير فيها معالم وأساليب إدارية كثيرة، كانت سائدة يوم غادرها الطريقي قبل نحو عشرين عاماً، وحيث إن الدولة هي من ابتعثته ليتأهل في إدارة شؤون النفط الجديدة، والدقيقة، بل الغامضة، فقد رجع ليكون المستشار الأول لدى الملك عبدالعزيز في مجال النفط، ومن ثم يكلفه عبدالله السليمان وزير الملك بمراقبة عمليات أرامكو من ضخ ومبيعات وحسابات، وهنا تبدأ رحلته الطويلة والشاقة مع شركات النفط، حيث كلف في عام 1374هـ مديراً عاماً لشؤون الزيت والمعادن، كما تبدأ شهرته إعلامياً حين بدأ يكشف مساوئ الشركات وتلاعبها وتحايلها على الدولة، بل تعمدها في إهدار الثروة النفطية كالغاز، بالإحراق، وكان يطمح أن تحصل الحكومة على حصتها كاملة في كل مرحلة من مراحل إنتاج البترول وتسويقه، وكان شعاره (من البئر إلى السيارة) مما يقتضي المساواة العادلة بين الشركات العاملة والحكومة ومما زاد الطريقي خبرة تواصله مع مسؤولي النفط بفنزويلا، ذوي الخبرة المكينة، والتجارب الطويلة مع شركات النفط، وفي عام 1959م صدر قرار تعيين حافظ وهبة وعبدالله الطريقي عضوين رسميين، ممثلين للحكومة في مجلس إدارة شركة (أرامكو) وقد نوهت الصحف السعودية عند ذاك بهذا القرار، وكان ذلك تحولاً كبيراً في علاقة الحكومة بالشركة، الأمر الذي جعل الأمير فيصل – نائب الملك على الحجاز – يثق بخبرة الطريقي، ويعطيه الصلاحية، حين كانت إدارة شؤون الزيت والمعادن مرتبطة بوزارة المالية بجدة، وقد ساعده على ذلك عدد من موظفي الإدارة النابهين، مثل فاضل قباني وعبدالهادي طاهر، وتلاهما فاروق الحسيني، وعاطف سليمان، وأحمد طاشكندي، ومصطفى حافظ وهبة، كما جاءت فكرة ابتعاث المتميزين في الشهادة الثانوية إلى أمريكا لتأهيلهم للعمل في مجال النفط، وهكذا ظهرت شخصية الطريقي أمام الرأي العام، وتفتقت مواهبه وطموحاته، التي تجاوزت الإمكانات المتاحة، الأمر الذي أوجد الثقة به من لدن ولاة الأمر، ففي عام 1959م رأس وفد المملكة العربية السعودية لحضور المؤتمر الأول للبترول العربي في القاهرة، حيث لمع نجم الطريقي وأصبح علماً في رأسه نار، مما أثار غيظ الشركات واعتراضها على آراء الطريقي ومرئياته حتى احتدمت بينهما معارك الكلام، وما زالت شهرة الطريقي تزداد، حتى أخذت صحافة أمريكا تكتب عنه وتهاجمه شخصياً، ولكنه ثبت شامخاً كالجبل، بتأيد ودعم من ولاة الأمر، ومطالباً أرامكو بإقامة صناعات متكاملة للزيت في المملكة، وخلال هذه الفترة كان الناس بانتظار حدثين مهمين:
أولهما: استحداث وزارة جديدة باسم (وزارة البترول والثروة المعدنية).
ثانيهما: ولادة منظمة الأوبك، التي كان يشتغل عليها مهندساها البارزان: عبدالله الطريقي والوزير الفنزويلي جوان الفونسو.
وسرعان ما برزتا للوجود حيث ولدتا في عام واحد هو عام 1960م، وفي تاريخ 03 – 07 – 1380هـ صدر أمر ملكي كريم بتعيينه وزيرا كأول وزير للبترول في المملكة العربية السعودية.
_الأيام الأخيرة
_ماذا عن الأيام الأخيرة من سيرة معالي الوزير عبد الله الطريقي وقصة وفاته خصوصاً وقفة سفارة خادم الحرمين الشريفين في القاهرة ونقل جثمانه إلى الرياض؟
– وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
لقد صدق لبيد بن ربيعة الكلابي في تصويره للإنسان وحياته الموقوتة، ثم رحيله المفاجئ، أياً ما كان عمره، طويلاً أو قصيراً.
وهكذا كان الطريقي، وقصته مع الحياة، فبينما هو ملء السمع والبصر، وصوته وخطابه تسري بهما الركبان، وآراؤه النفطية والعروبية تجلجل المحافل الدولية، والملتقيات الفكرية والاقتصادية، إذ هو خبر من الأخبار، وقصة وفاته – رحمه الله تعالى – ليس فيها شيء جديد، فقد عانى في الأشهر الأخيرة من حياته من بعض العلل، كما عانى من ملل الفراغ والانحباس في البيت، الذي لم يعتده، حتى كان يتمنى أن يعود إلى مسقط رأسه ليعيش بقية حياته، في مزرعته بالزلفي، فقد بدأ يفقد وعيه بين حين وآخر، وأدخل مستشفى الصفا في حي المهندسين بالقاهرة.
وفي يوم الأحد السابع من سبتمبر 1997م لفظ أنفاسه الأخيرة.
إنما الموت منتهى كل حي
لم يصب مالك من الملك خلدا
سنة الله في العباد وأمر
ناطق عن بقائه لن يردا
وإلى الله ترجع النفس يوماً
صدق الله والنبيون وعدا
أما بقية قصة وفاته، مما يتعلق بوضعه في المستشفى وتغسيله، والصلاة عليه، وتشييعه ودفنه، فذلك له حديث مختلف، فزوجته «مها جنبلاط»، وابنته «هيا» كانتا تريان تجهيزه ودفنه بالقاهرة، حيث أعدت الزوجة قبراً لزوجها بجوار صديقه اللواء عبدالفتاح رحمي، وذهبت البنت إلى السفارة السعودية لتخبرهم بوفاة والدها، وتطلب الإذن بدفنه، أما الدكتور سليمان بن عبدالرحمن العنقري – الملحق الثقافي بالقاهرة حينها – فقد تبلّغ – كما يقول – من المستشفى بوفاة الطريقي، فهرع مسرعاً إلى المستشفى، ووجد زوجة الطريقي هناك، فسألها عمَّا ستفعله بالجثمان، فقالت: قد جهزت له قبراً، فسألها هل أوصى بذلك؟ فقالت: نعم، فطلب منها ما يؤكد ذلك، ولكنها لم تفعل، فاتصل مباشرة بالسفير السعودي وأخبره، فكتب السفير إلى وزارة الخارجية التي أبلغت على الفور سمو أمير منطقة الرياض حينذاك (خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز)، كما تواصل الدكتور سليمان مع أخي الطريقي لأمه محمد بن حمد العنقري وآخرين، لمتابعة إنهاء الموضوع بالإمارة، حيث جاء التوجيه بنقل الجثمان للمملكة على وجه السرعة، فبدأت السفارة بإجراءات نقل الجثمان، وهنا طالت المفاوضات بين السفارة والزوجة وابنتها، وبقي الجثمان ثلاثة أيام بين قوالب الثلج، حيث لا تتوفر في المستشفى ثلاجات حفظ الموتى، لكن يبدو أن رأي السفارة السعودية كان هو الأرجح، فأخرج من المستشفى إلى المطار مباشرة، لتحط به الطيارة في وطنه (الرياض)، حيث الحنين المشترك بينهما.
على أن زوجته جنبلاط تنفي أنه كان لديها رغبة أو إصرار على دفنه بالقاهرة، بل المهم أن يدفن على وجه السرعة.
وربما كان لبعض أصدقاء الطريقي السعوديين كمحمد اللحيدان دور في إقناع العائلة بدفنه في الرياض.
هذا وقد أديت صلاة الجنازة عليه بعد صلاة العصر في جامع الراجحي، ودفن في مقبرة النسيم (شرقي الرياض).
وذلك يوم الأربعاء الموافق للعاشر من سبتمبر 1997م عن عمر يناهز الثمانين عاماً أو يتجاوزها بقليل، أنزل الله عليه شآبيب رحمته.
مذكراته
_ هل كتب معالي الأستاذ عبد الله الطريقي مذكراته؟
– إن رجلاً بمثابة الطريقي، عاش معظم القرن العشرين؛ قرن المتغيرات والتحولات والثورات السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية، ولم يكن شخصاً عادياً، بل كان رجلاً عصامياً ألمعيا مثقفاً، إن رجلاً مثل هذا لا بد أن تكون جعبته مليئة بالغرائب والعجائب والتجارب والخبرات الطويلة.
ولذلك كان كل من عرفه يتساءل هل كتب مذكراته، على غرار كثير من أهل الثقافة والفكر والأدب، وأصحاب التجارب العملية في ميادين السياسة والإدارة وغيرهما؟
غير أن الجواب باختصار، أنه لم يفعل، كما أكدت ذلك زوجته مها.
ويذكر كل من فهد العريفي ومحمد القشعمي، أنهما سألاه هل دونت شيئاً من ذكرياتك؟ فأجاب بعد تنهد: لا، لم أكتب شيئاً، بسبب كثرة الأشغال، لكنه أبدى استعداده للإملاء، والإجابة عن أي سؤال.
ونظراً لكثرة الصوارف لم يتمكنا من تحقيق هذه الأمنية.
أما الدكتور عبدالرحمن بن راشد العبداللطيف، فيذكر أنه لما رجا منه كتابة مذكراته اعتذر بأنه لا يستطيع أن يقول أو يكتب كل ما يريد، لئلا يَغْضَب الأصدقاء والمخالفون، وهذا من باب إيثار السلامة على حدّ قول الشاعر:
من سالم الناس يسلم من غوائلهم
وعاش وهو قرير العين جذلان