– الناصرية قامات وأمكنة
تظل الناصرية مدينة ولادة بالأدباء والشعراء والمفكرين
مدينة لايكل أبنائها عن حمل مشعل الإبداع في المشهد الثقافي العربي، يتابعون ويناقشون آخر المدارس النقدية والفكرية العالمية بجدل عميق ومتقدم، لإستيعابها الحقيقي وليس الشكلي فقط .. كما أنها تميزت بتنّوع ديموغرافي جعل أهلها ينصهرون في كتلة واحدة مشكلين مجتمعاً انفجرت فيه الثقافة بشكل رائد أكثر و كان عاملاً محفزاً لتكوين حركات أدبية فاعلة منذ مطلع الأربعينيات، بالإضافة لظهور بواكير المجلات والصحف كالبطحاء واللواء وصوت الجماهير.
تشرب ابناؤها الشعر والأدب ليس من المقررات الدراسية أو المكتبات بل حتى من الشارع و أعني هنا الأثر الممتد للمقاهي الشعبية كمقهى عزران و البغدادي ولو تغيرت الأمكنة واسماء أربابها إلا أن مرتاديها لا زالوا يفتحون الحوارات الساخنة ويتبادلون الأفكار والأشعار والنكت اللاذعة..
تأثر شاعرنا وضيفنا بأجواء هذه المدينة وكأن من ولد في هذه الأرض وجب أن يكون شاعراً بالفطرة!
ولد شاعرنا في “السديناوية” وتعلم في مدرسة “شيرون” الطينية بنوافذ ضيقة و وأسقف مغطاة بأعواد القصب و النخيل تعلو فتحات النوافذ اعتاب خشبية تحمل بقية الحائط لكن بنايات مخليته غلبت مدارس الطين وساحاتها الترابية.
لم تمحو السنين ذكريات مدرسته الابتدائية وجوه الأصدقاء ورائحة الكتب و معلمه العصامي الأنيق ” جلال محسن” الذي كان له أثراً نفسياً وروحياً لا تقل عن أثر “بدر شاكر السيّاب” شعرياً.
يكمل قائلاً : “هناك تعلمت لغتي وتعرفت على أصدقائي وتشكلت معالمي”
وانتقلت بعدها الى المدينة لإكمال الدراسة الإعدادية ثم الى بغداد لدراسة اللغة الفارسية ثم انتقلت من مهجر الى اخر ابتداء بالمملكة العربية السعودية مرورا بسوريا فإيران ومن ثم العودة الى العراق عام
200٣ صدرت له عدة دواوين منها ديوان “غبارنجمي” ،”ماقبل فقدان الأصابع من نشيد” “حج الفراش” ومجموعة دم أزرق الشعرية ونيرفانا المترجمتين للغة الأنجليزية
ومثلما كان في حياته لا مستقر ولا ثابت متنقلاً قلقاً كانت
معاناة خروجه من أصابع اسئلتي، بدهاءه بلد ينتمي إليه وأناقة رده ولغته، ينحت شاعرنا تماثيل صوره الشعرية في كيان اللغة بعبث دقيق وإنسانية باذخة تلمس أنامله أضلع الموجوعين فيبتهجوا، وصدر كل منطفىءٍ ليتوهج ..
بمعجز قصائده يملك جمهوراً ذو ذائقة عالية صعبة لكنها ليست كذلك على أستاذ المجال ورب الصنعة..
هذا الشاعر هو ابن الفرات زكي العلي..
س١- لك استبداداً شعرياً يجعل في قصائدك إلهاماً أقرب إلى التنزيل لذا وفي بداية هذا الحوار أود أن نسترجع التفكير إلى منابع رؤيتك الشعرية وتجلياتها، أين كانت بالضبط في صداقة مع اللغة؟ أو بأحلام معلقة؟ أو من عذابات حياة عشتها ؟ ما هي الكيمياء التي جعلت منك شاعراً؟
منذ طفولتي وأنا أعيش وأنتمي لتلك المنطقة الرمادية التي يلتقي فيها الخيال والواقع دون أن يتحدا أو كما يحلو لي أن أسميها بالمتاهة، في البداية حاولت ربطهما بآصرة وأن أحدث توازناً ما بينهما لأعيش فيهما في آن واحد ولكني فشلت ففي النهاية الواقع هو الواقع والخيال هو الخيال فصرت أتنقل بينهما كلما ضغط عليَّ الواقع هربت إلى الخيال وكلما اشتقت لمفردات الواقع عدت إليه ولأن الواقع ضاغط وقاس جداً في البيئة التي كنت أعيش فيها، لذلك كنت أهرب الى الخيال وأبقى فيه أكثر ولا شعورياً كنت أعتقد غريزياً أن الشعر يسكن في هذا الحيز الذي يفتقر إلى الاستقرار ويعج بالتناقضات وإن رغبتي الكامنة بالتواجد في تلك المنطقة الرمادية أو المتاهة أو ما بين المفاهيمي والغير مفاهيمي كانت هي الطريقة التي كان يناديني بها الشعر كقدر. عرفت ذلك بالتجربة الحسية الشعرية الأولى لي ومنذ تلك اللحظة الشعرية الأولى وأنا أنتقل الى تلك المنطقة كلما أردت الكتابة .. لطالما شغلا: “الضوء والشعر” الحيز الأكبر من تفكيري، كنت مصابا بالذهول وأنا أراه في الشوارع والمساجد، وهو آت من النجوم وكنت أبحث عن تفسير أبعد من التفسير العلمي له. حتى وجدته في الشعر
س٢- قلت أن التماثيل للشعراء النقاد يجلسون تحت ظلها فقط
وقال غوستاف فلوبير “يصبح الرجل ناقدًا حين يعجز عن أن يكون فنانًا، وبالطريقة نفسها يصبح مخبرًا حين يعجز عن أن يكون جنديًا”
ما أسباب هذا العداء المبطن و الحروب الباردة بين الادباء والنقاد؟
ما أقصده بهذه العبارة أن الأصالة للشعر لا للنقد هنا
باعتبار ان المنتج الشعري والشاعر هما الجوهر أو المادة التي يقوم الناقد بإعمال أدواته النقدية فيها ولولا وجودهما لما وجد النقد اساسا بينما الشعر باق بوجود النقد أو عدم وجودة وعلاقتهما علاقة الجوهر بالعرض سواء كان ذلك النقد نقدا أدبيا أم ثقافيا فالعلاقة هنا ليست علاقة تكاملية بقدر ماهي علاقة كشف جمالي للنص أدبيا وإبراز لأحمال النص المضمر ثقافيا
الشعر هو الجغرافيا والنقد هو السائح الذي يتجول ويكتشف لنفسه ويكشف لغيره جماليات وأسرار تلك الجغرافيا
لذا فالعلاقة هنا ليست علاقة ندية بقدر ماهي علاقة تبعية
وهذه الحقيقة اكتشفت منذ بدايات العلاقة بين النقد والشعر وأشار لها كثيرون قلبي وحتى لو رجعنا إلى المعنى السطحي للعبارة آنفة الذكر فهذه حقيقة عينية ماثلة امامنا لايكاد يخلو بلد من تمثال لشاعره لكن لايوجد تمثال واحد لناقد لا اقصد هنا التقليل من قيمة الناقد على النحو الشخصي او النقد كفعل كشفي لكن هذه هي الحقيقة هذا بشكل عام أما كوجهة نظر شخصية ومن خلال متابعتي وتقييمي الشخصي الذي قد لايعجب البعض أو أكون مخطأ فيه أرى أن النقد الموجود الآن على الساحة هو نقد ذوقي انطباعي يفتقر لحالة الصدام الجدي مع النص، ويجامل ويحابي الكاتب على حساب الغرض النقدي، وغير منصف مع الكتاب الواعدين. يشتغل به مجموعة أشخاص هم أقرب إلى القراء منهم إلى النقاد. يدونون ما تمليه عليهم أذواقهم وانطباعاتهم، ويقومون باجترار قواعد وجمل جاهزة ويسقطونها على الشعر
وأجد أن معظمهم قد غادر جغرافيا الشعر إلى السرديات والقصص لقناعته بأنه لا يمتلك الموهبة أو الأدوات النقدية التي تمكنهم من الخروج بماء الوجه بعد التورط بنقد الشعر، أستثني من ذلك بعض النقاد مكتملي الذوق والوعي والأدوات والرؤية الذين لا يتجاوزون عدد الأصابع، كالدكتور عبد الله الغذامي ومن بدرجته ومستواه وهؤلاء القلة الذين لا يتناسب عددهم مع وفرة النتاج الأدبي.
س٣- مالقصيدة التي عندما أنهيتها شعرت بأنها أنقذتك من انكسارات عدة؟
قصيدة سفر عكسي وهي من القصائد التي كتبتها مؤخرا على الشكل العمودي وهي محاولتي الأصدق في السفر الكشفي عبر ذاتي ونقطة التحول النفسي والعقلي ومحاولتي الأنضج لأعادة انتاج ذاتي على ضوء تجربتي الطويلة مع الحياة وتصحيح مبادئي وفهمي لله للكون والإنسان وللصداقة والحب والألم وجاءت القصيدة بخمسة وعشرين بيتا من الشعر وأنا أقصد كل كلمة وكل شطر وكل بيت فيها دون خجل أو مواربة أو ادعاء انها لاتمثلني نعم هذا أنا وكل مافي شعري يمثلني خصوصا ذلك الذي يتمحور حول ذاتي كل قصائدي تمثلني وانا حزين وانا منكسر وأنا ضعيف وأنا عاشق وانا غاضب وأنا قلق وجوديا ما اكتبه هو انا في حالتي السائلة أنا على هيأة حبر وقصيدة سفر عكسي هي من تركت في هذا الشعور وهي الأقرب إلى قلبي.
س٤- المتابع لنتاجك الشعري يجد أنك تكتب على جميع الأشكال الشعرية المتعارفة على العكس من الكثير من الشعراء الذين يختارون شكلاً شعرياً بعينه ويستمرون بالكتابة عليه برأيك هل الشعر فعل تطوري أم أنه شكل ثابت ومحدد بقواعد صارمة تنفي صفة الشعرية عن النص في حال اخترقها أو تمرد عليها؟
أعتقد ـ وهذا رأي شخصي لا أعممه على تجارب الآخرين ـ بأن التجربة الشعرية حالة تطورية تبدأ بالعمود مروراً بالتفعيلة وانتهاء بالقصيدة النثرية. وأشعر بعد أن كتبت القصيدة العمودية لفترة طويلة بأن الصور باتت تنفد، وأن مقاساتها باتت ضيقة عليّ، وأحتاج إلى مساحة أكثر سعة للتعبير والحركة، وهذا ما وجدته في التفعيلة، وبحكم خبرتي التراكمية صرت أكتبها بسلاسة وانسيابية ترضيني إلى حد ما، كما أن جمهوري يحبّ قصيدة التفعيلة التي أكتبها.. ولا اخفيك سرا بأني أميل إلى كتابة قصيدة النثر حاليا وأشتغل عليها بجدية كاملة لأعتقادي انها ستكون حجر الزاوية في ادبيات القرن القادم كونها وبرغم الممانعة قد وصلت إلى مناطق شعرية أبعد مما وصلت إليه القصيدة العمودية واكتشفت أرضاً بكراً في الغور البشري ولامست أبعاداً أعمق في النفس وإعادة إنتاج العالم بطريقة غير مألوفة سابقاً. وأسهمت في أعادة تفكيك وتركيب العلاقة بين المفردات ودلالاتها. وانا سعيد بكتابتها والتجريب فيها.
س٥- يقول الجاحظ “أن فضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلّم بلسان العرب، والشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوّل تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه” ترجمة الشعر بين استحالة و ضرورة بين نقل صورة متعذرة وأصول ابداع وتجويد ملزم، بعد ترجمة دواوينك الشعرية للغات مختلفة هل لمست خيانة حقيقية للنص الأصلي ؟ تعليقك ..
اود ان اشير الى انني ومنذ البداية أعطيت للمترجمة الحرية والصلاحية الكاملة في إعادة تشكيل النص واستخدام نفسها الشعري الذي لمسته اثناء حديثنا حيث انها كانت تمتلك نفسا شعريا واضحا يتناغم الى حد كبير مع أساليب تشكيلي للصور الشعرية لم اشأ ان اقيدها باستخدام مفردات مطابقة لنتجنب الوقوع في فخ الترجمة الحرفية وكانت مخلصة تماما في محاولتها لنقل الفكرة الى اللغة الأخرى واكثر حرصا وانضباطا واصرارا على إنجاح العمل الشعري المترجم مني وفي النهاية فالجميع يعلم انه ومهما كان المترجم متمكنا من ادواته تبقى مسألة نقل الصورة الشعرية حية وكاملة يكاد يكون ضربا من المستحيل وانه وبمجرد نقله من لغة الى لغة أخرى يفقد جزءا منه اشكرها جدا واقدر جهدها الكبيرعلى إنجاح العملين الشعريين وأتمنى ان يكونا عند حسن ظن القارئ.
س٦- الكتابة ولذتها منذ الوعي الأول هل تركت في ذهنك فكرة أَن تصبح شاعراً متفرداً كما أنت الآن ؟..
ابدا لم يكن ذلك في حسباني كانت الكتابة بالنسبة لي مخرج طوارئ انسحب من خلاله إلى عالم داخلي صنعته بنفسي للهروب إليه كلما ضغط علي الواقع بدأت مبكرا وكنت احتفظ بما اكتبه لنفسي لا اعرضه على أحد ولا أشاركه مع أحد وكنت مصرا منذ البداية على ان لا اتكلف النص اثناء الكتابة وان اصور شعوري مثل ما هو ومازلت إلى هذه اللحظة امينا ووفيا لمشاعري وافكاري وأخطائي أيضا
لم اقصد أن أكون شاعرا لكن هذا الذي حصل فيما بعد في تويتر مثلا فتحت هذا الحساب عام2016وبقيت سنة كاملة فيه ولم أكتب حرفا واحدا لم اكن اتابع أحد ولايتابعني أحد كنت اقرأ فقط إلى أن جاء عام 2017 فكتبت تغريدة
قلت فيها:على طائرة ورقية،كتب الحالم قصيدة ،فردت علي سيدة أسمها غيمة قائلة:ريح عاصفة القصيدة تستنجد، ولأني لم أكن منتميا إلى اتحاد أدبي وكنت بعيدا عن الفعاليات الأدبية والأدباء لم أكن معروفا مثل ما أنا عليه الآن وبعد مرور ست سنوات على وجودي هنا في هذا الفضاء مازلت مستمرا بالكتابة على نفس النهج والقناعات التي بدأت منها.
س٧- تقول بإحدى قصائدك:
– خُلاصةُ العُمرِ أيامٌ أراك بها
– وما عَدَاها مِن الأيامِ تبذيرُ
قيل أن الحب أعظم ابتكار للحضارة الإنسانية كيف طوعت الحب في قصائدك؟
ذكرتني ببيت لنزار قباني يقول فيه
الحب في الأرض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه ،وبودي هنا أن اتناول موضوعة الحب في الشعر من البوابة المؤدية إليه وهي شعر الغزل هناك مستويات عديدة لدراسة هذه الظاهرة في الشعر العربي والعالمي على حد سواء فالحب هو أكثر المواضيع حضورا في الشعر والغزل هو بوابته الشعرية تساءلت مرة بيني وبيني عن السبب او الدافع النفسي الذي يحرك المخلوقات ومنها الإنسان على إيلاء الحب كل هذه الأمية في حياته ولدى قراءتي لهذه الظاهرة وجدت ان هناك نزعة مثالية في التصوير والتعبير عن الحب وان هناك عملية تغليف وتجميل للدوافع الحقيقية التي تقف وراء هذا الفعل الإنساني بهدف تجميل حاجتنا البشرية للأمان والتزواج إليك هذه الحقيقة: شعر الحب أي الغزل هو مقدمة أدبية تفضي الى نتيجة بايولوجية مهمة هي الحفاظ على النوع من الإنقراض وضمان تماسكه أثناء مسيرته الحياتية
وبعبارة أخرى هو ترجمة للشيفرة الهرمونية البشرية والرافضون لهذه الحقيقة البايلوجية يتحججون بالحب العذري وهو أسطورة الفقراء كما يعبر طه حسين أو بالحبيبة المتخيلة التي لاوجود لها في ذهن الأديب إلاّ انه وبالنظر للصورة الكلية لهذا السلوك نجد أن تلك الحبيبة المتخيلة هي مقاسات ومواصفات من يبحث عنها ذلك الأديب لكي يلاقح جيناته بجيناتها لأنتاج نوع مثالي يكون فيما بعد امتداده الطبيعي في الحياة
وبالمناسبة لسنا الوحيدين في هذه الممارسة كل الكائنات الحية تسترك معنا في هذا وكلها لديها مقدمات غزلية مشابهة غايتها القصوى هي حفظ النوع هذا الفعل اثار شهية علماء الإحياء الذين وجدوا فيما بعد أن السلوك الغزلي والرومانسي للفصائل الإحيائية وفي سياق عام وجدوا أن معظم تلك الفصائل لديها مقدمات غزلية قبل التزاوج نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الطاووس يستعرض بريشه لجذب الشريكة البجع يرقص رقصة غاية في الرومانسية والجمال العنكبوت يقدم حشرة ميتة ملفوفة بالحرير كهدية للأنثى بهدف استمالتها
الحوت الأحدب يغني لها ليثير إعجابها
أما فرس النهر فيقدم نفسه وجبة غذائية للأنثى بعد التزاوج في نهاية دراماتكية تعتبر من أعنف النهايات الرومانسية وكنتيجة استقراء لهذا السلوك الإحيائي و أن الهدف الأعلى والغاية الأسمى منه هو التزاوج لحفظ النوع من الإندثار ومغادرة السلسلة الإحيائية وبما أن البشر فصيلة إحيائية هي الأخرى ومن سلسلة الثديات تحديداً نجد وعلى نفس المنوال يأتي بسلوك مشابه لبقية الفصائل كتقديم الهدايا للإناث والأعتناء بالمظهر الخارجي واستخدام العطور اللطيفة وإهدائها ومدح الشريكة الى آخره من السلوكيات له غاية قصوى هي حفظ النوع بالإضافة إلى غايات ثانوية ليست هي الهدف الرئيسي بالتأكيد
وبغض النظر عن مآلاته ودوافعه يبقى الحب وبوابتة التي هي أدب الغزل فاتناً ولاينقص معرفة الدافع شيئاً من مكانته الرفيعة،ودوره الفاعل في الحياة
س٨- من الفرزدق وجرير مروراً بالمتنبي احمد شوقي، الجواهري، نزار قباني ومحمود درويش مالذي يجعل الشاعر مخلداً في الذاكرة العربية؟
لو لاحظت ان اختيارك ولا اراديا قد وقع على هؤلاء الشعراء دون غيرهم والقاسم المشترك فيما بينهم برغم اختلاف المدارس التي ينتمون أليها الفرزدق وجرير وهما من شعراء النقائض برغم تحفظي على ذلك النوع من الشعر والجواهري وأحمد شوقي للمدرسة الكلاسيكية السحرية
ونزار ومحمود للحداثة الشعرية لكنك شعرت بقاسم مشترك يجمع كل هؤلاء وهذا القاسم المشترك هو اتسام اشعارهم بالوضوح اللغوي والتصويري وهي المدرسة القريبة جدا ودائما من المتلقي
أعرف مسبقا أن هذا الأمر يزعج أصدقائي من الشعراء الرمزيين وأصحاب النصوص الوعرة التي تحتاج الى قارئ يملك ثقافة موسوعية وإلمام بالأسس التي بنيت عليها القصيدة الرمزية أو القصيدة المشفرة كما يطيب لي أن أسميها كي يستطيع فك رموزها وفهم دلالاتها وحتى هذا القارئ النادر الوجود يقف عاجزا في كثير من الأحيان أمام فهم الإشارات المرسلة من الشاعر فهما كاملا وإن هز رأسه أو أبدى إعجابه أو صفق أو صفّر موحيا أنه قد فهم المغزى من النص لا أقول أن كل من استخدم الرمزية من الشعراء قد أخفق في إيصال معناه إلى مريدي شعره لكن الكثير ممن انخرطوا في هذا النوع من الكتابة تعرضوا للإخفاق غالباً
ليس على صعيد الجمهور العام للقصيدة وإنما حتى على مستوى النخب أنظر الى براعة السياب في الترميز واستدعاء الشخصية الدينية
وتوظفيها في النص الرمزي وكيف تلبس بها حد التقمص دون أن يحرج القارئ أو يضطره الى البحث في المعاجم عن دلالة المفردات التي وظفها
في قصيدة سفر أيوب إذ يقول فيها
شهور طوال وهذي
الجراح تمزِّق جنبي مثل المدَى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسَح اللّيل أو جاعه بالردى
ولكنّ أيّوب إن صاح صاح
لك الحمد، إن الرزايا ندى
وإنَّ الجراح هدايا الحبيب
أضمٌ إلى الصدر باقتها
هداياكَ في خافقي لا تَغيب
هداياك مقبولة هاتها
على صعيد شعري آخر نجد نصوصاً أخرى لرواد هذه المدرسة غاية في الوعورة والاغماض كهذا النص على سبيل المثال للحصر
حاضِنًا سُنبلةَ الوقتِ ورأسي برجُ نارٍ:
ما الدّمُ الضّاربُ في الرّملِ، وما هذا الأفولُ؟ قُلْ لَنا، يا لَهَبَ الحاضِر، ماذا سنقولُ؟ مِزَقُ التّاريخِ في حُنجرتي وعلى وجهي أماراتُ الضّحيّةْ ما أَمَرَّ اللّغةَ الآنَ وما أضيقَ بابَ الأبجديّةْ حاضنًا سنبلةَ الوقتِ ورأسي برجُ نارٍ: جُثَثٌ يقرؤُها القاتِلُ كالطُّرْفَةِ أَهْراءُ عِظامٍ
والنص أعلاه لأدونيس والذي بالمناسبة أواجه صعوبة كبيرة في فهم نصوصة او اكاد لا أفهم شيئا في الأعم الأغلب منها
وبرأيي الشخصي الذي لا أعممه ولا أفرضه على أحد أن هكذا نصوص ولدت لتكون خاصة بالشاعر نفسه والجمهور غير معني بها اللهم إلا بعض الذين يجاملون الشاعر لدواعي اجتماعية أو مصلحية
ولطالما ادهشتني الفكرة العظيمةالموضوعة في قالب أدبي بسيط أقول في نفسي وأنا أقرأ كيف أستطاعت هذه البساطة
استيعاب وشرح كل هذا التعقيد
إن إغراق المتلقي بالإبهام والعماء الدلالي بدعوى الرمزية أوتماهي الشعر مع التصوف والذي يغيب فيه التطابق العيني بين المفردة ودلالتها غيابا تاما ينتج انقطاع الصلة بينك وبين من يراد إيصال الفكرة إليه ولا أدري ما الجدوى من كتابة نص لايستهدف أحدا ولايفهمه أحد
س٩- يقول غوستاف باشلار : إندهش أولًا و بعد ذلك ستفهم..
التشكيل البصري في شعرك والذي يسهم في توجيه القارىء إلى مخزونك الرؤيوي
و باعتبار أن هناك فيلسوف داخل كل شاعر
هل هذا ماتتعمد أن تخلقه في ذهن المتلقي؟!
نعم هذه هي التراتبية الطبيعية للتعاطي مع النص الشعري المائز
الدهشة هي الشعور الأولي التفاعلي
اي الشعور الذي يشعر به القارئ أو المستمع عند قراءة أو سماع قصيدة شعرية ما. و الإحساس بالجمال والعمق والروعة والتأمل الذي ينتج عن تجربة القصيدة الشعرية. ويغتمد مدى تحققها لدى المتلقي على اللغة المستخدمة في القصيدة والأسلوب الذي يتم به التعبير، لغة وصورة ومجازا لإيصال معاني عميقة ومعقدة تحقق الشعور بالدهشة والإعجاب والخيرة والتأمل الذي بدروه يؤدي إلى التحفيز لمحاولة فهم النص.
س١٠-ذكرت عبر لقاء لك في مجلة الفرقد الابداعية أن أعظم مافي الشعر سوء الفهم إلى أين تريد أن تذهب بهذه العبارة؟
نعم قلت ذلك ومازلت عند رايي لاشك ان النص في لحظة الكتابة ومابعدها ولحظة الدهشة الأولى والفهم الأول هو من حصة الشاعر كمكافئة على جهده فيه ثم يصبح بمجرد نشره الى ملكية مشتركة مع المتلقي والقارئ هنا تبدأ عملية سوء الفهم التي هي اجمل ماسيحصل للنص ثم يبدا النص بالتنقل اثناء التلقي في اذهان القراء ليتشكل من جديد الاف المرات ويفهم بمستويات متعددة وتكتشف فيه لمعات واضاءات لم تكن قد خطرت على بال الشاعر نفسه لحظة الكتابة لكنها كانت مضمرة وموجدة داخل النص فيتحول حينها الشاعر الى متلقي جمالي أيضا لنفس النص ويبدأ بقراءة الانطباعات التي تشكلت في اذهان القراء عنه ومعظمها أي تلك الانطباعات والقراءات كانت غائبة عن ذهنه لحظة الكتابة فهو وان كان سوء فهم للنص من زاوية نظر الكاتب الا انه سوء الفهم الاجمل على الاطلاق للنص.
س١١- بعد كل هذا العطاء والبذل، بما كافئك الشعر؟ أو ما الذي تغير بعد أول جملة شعرية؟
-لم اكن انتظر ان يكافئني الشعر كنت بحاجة الى كتابته كتعبير واثبات لوجودي ككائن اريد ان اعرف وان اسمع من قبل بقية الكائنات وقد اعطاني الشعر ما اريد قاعدة متلقين وجمهور كبير في كل اصقاع العالم الذي وصل اليه صوتي تخيلي احدهم كتب لي ذات مرة انا الان على جبل ايفرست واقراء لك هذه وحدها مكافئة مجزية وكبيرة.
١٢- كلمة أخيرة توجهها لجمهورك ومحبيك نختم به هذا اللقاء. و أمنية ترغبها على صعيد الشعر أو على صعيد الانسان والوطن؟.
– الى جمهوري العزيز شكرا لكل كلمة دعم ولكل قراءة لنص شكرا لمساعدتي في ان اتطور للإنسانية جمعاء امنياتي بالتقدم والسلام لوطني العزيز امنياتي بالرفعة والسمو والعودة الى المجد لمجلتكم الغراء كل الاماني بالتوفيق السلام عليكم جميعا ورحمة الله.