قبل ربع قرن من الزمن تقريباً، تغاضت بعض الدول بالعالم عن نشوء المنظمات الإرهابية المسلحة التي تستخدم بشكل جديد الدين كغطاء مزيف لتحقيق هدف خطير ينحصر في تخريب أمن الدُّول الإسلامية وإطاحة حكوماتها وتحريض مواطنيها ضد مؤسسات الدولة وقتل رجال أمنها وصولاً لقيام حروب محلية بين أبناء المجتمع الواحد. وغاب عنهم أن الإرهاب يحرق من يتجاهله، وأنه يتمدد بسرعة ليصل إلى كل دولة لها صلة ومصلحة بالأماكن ألتي يهاجمها الإرهاب خاصة في آسيا وإفريقيا. والإرهاب العنيف بشكله الحديث يُجمع الكثير على أن هناك سببين مباشرين وراء قيامه وهما، إحتلال إسرائيل لبلاد الفلسطينيين وارتكاب جرائم حرب إبادة ضدهم، ومجيء الثورة الخمينية ونشر فكرها الطائفي المتطرف.
وكانت السعودية أول دولة تتعرض لإرهاب منظمة القاعدة ألتي أسسها أسامة بن لادن وتلقى دعماً كبيراً من دول مختلفة وحظي بحمايتها والتستر على تحركاته في إفريقيا وآسيا بعلم الدول الكبرى بالغرب والشرق. وقد حاولت السعودية عبثاً إقناع ألذين يستخدمون بن لادن بأهمية تسليمه لمحاصرة تنظيمه وتفكيك خلاياه قبل أن يستفحل الإرهاب وتنتشر أفكار ومؤيدي التنظيم داخل المجتمعات بالعالم، لكن لم يستجيبوا لتلك الإنذارات ولا للنداءات بصوت مرتفع سمعته الأمم المتحدة ومجلس الأمن وعواصم العالم ذات المصالح والتأثير بمنطقة الشرق الأوسط.
واستمرت المملكة تحذر بوضوح من خطر قادم يهدد الجميع بما هو أخطر من مستوى التفجيرات التي نفذتها القاعدة بمجمعات سكنية آمنة بالرياض منذ عام 2003، ولم يستمعوا لتلك التحذيرات ايضاً، فخرج تنظيم داعش من رحم القاعدة برغبة تيارات وأحزاب فاسدة مدعومة من دول ذات توجه راديكالي توسعي وأخرى تريد نشر الفوضى بالمنطقة. ومع ذلك حاربت السعودية بمفردها جميع أشكال الإرهاب ومسبباته في حدود مسؤوليتها ولاحقت منظماته أمنياً حتى أطاحت بعشرات الجماعات والخلايا وقبضت على أغلب المحرضين والممولين والمفتين الذين يقفون خلف تجنيد الشباب لتنفيذ التفجيرات، فأصبح بذلك لدى السعودية خبرة تراكمية ناجحة في مجال محاربة الإرهاب وفي تصحيح مسار من يتم القبض عليهم.
وبعد تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز مقاليد مسؤولية الحكم في البلاد وتكليف سمو الأمير محمد بن سلمان بقيادة وزارة الدفاع، وبناءً على خبرات المملكة في مواجهة الإرهاب ومعرفتها لحقيقة القواعد الفكرية والإجرامية ألتي تقف عليها المنظمات المتطرفة، وعلى معرفة الرياض بحجم الظلم والكيد الذي تتعرض له دول العالم الإسلامي من إتهامات باطلة وعقوبات ظالمة، دعى الملك سلمان في عام 2015 إلى قيام تحالف إسلامي عسكري هدفه محاربة الإرهاب بشكل مختلف وغير مسبوق، بحيث لا يعتمد فقط على المواجهة الأمنية بل ينتهج تصحيح الأفكار أولاً والمفاهيم التي زرعها المتطرفين في عقول وأذهان الكثير من المخدوعين والناقمين وأصحاب السوابق والمصابن بأمراض وعقد نفسية. وثانياً يؤسس التحالف لاستخدام برامج الإعلام على جانبين، أحداهما تفنيد مزاعم الإرهابيين ودحضها بالحقائق والأرقام، والآخر من خلال شن حملات بإتجاهين، نحو المجتمعات بهدف تحصين افكارها، والإتجاه الآخر لمهاجمة المنظمات الإرهابية وإحباط حملاتها الدعائية والإشاعات التي تصنعها وتروجها.
ولم تتجاهل إستراتيجية التحالف محاربة تمويل المنظمات مادياً، فجعل تجفيف منابع التمويل ضمن محاوره الرئيسة بالتعاون مع المؤسسات المالية بالعالم وتقديم التدريب لكل دولة تحتاج لتطوير أمن وحماية مؤسساتها المالية. ثم وضع التحالف الدعم العسكري والأمني لمواجهة ومحاربة الإرهاب ميدانياً مجالاً حيوياً ومكملاً لبقية المجالات الناعمة الأخرى من خلال تقديم العون والمشورة والخبرات العسكرية والأمنية والدعم بالأجهزة والمعدات والبرامج والتقنيات لكل من يحتاجها من الدول الأعضاء بهدف مواجهة خطر الإرهاب عسكرياً.
والهدف الإستراتيجي لهذا التحالف وأوجه الدعم المتنوعة التي يقدمها ليست خاصة بدولة أو منطقة أو لخدمة عرق أو دين بل هو تعاون دولي إنساني لحماية البشر وأطفالهم من شرور ومخاطر الإرهاب الذي أصبح يشكل تهديداً عابراً للحدود تستخدمه دول فاسدة وأخرى لا تهتهم بغير عرقها ومنطقتها ومصالحها ويرضيها بقاء هذا الإرهاب مشتعلاً في دول ومناطق بعينها (أغلبها إسلامية)، لتحقيق مصالح أنانية وعنصرية على حساب دماء الآخرين وأمنهم وحياة أطفالهم وتنمية أوطانهم. وكان المذهل هو سرعة إستجابة عشرات الدول الإسلامية وغير الإسلامية لدعوة المملكة للإنضمام فوراً لهذا التحالف الذي هدفه معالجة جذور التطرف والتزمت والعنف، ومحاربة الإرهاب بكل ما يمكن من خلال السيادة الوطنية لهذه الدول وبما لا يتعارض والقيم الإنسانية وشرائع وقوانين الأمم المتحدة.
وكنت محظوظاً لحضور بعض الندوات والبرامج الفكرية والسيبرانية والإعلامية والأمنية التي يعقدها هذا التحالف بعناية فائقة وأختيار دقيق، وبحضور ممثلين دائمين لعدد 43 دولة دائمة العضوية بمقر التحالف بالرياض، والملاحظ أن المختلف المفيد في هذه المناشط هو أن الجهد منصب على محاربة جذور الإرهاب والسعي لتحصين فكر الأسرة والمجتمع والمؤسسات من سموم دعايات وأفكار المنظمات الإرهابية التي تنشط بشكل كثيف عبر وسائل التواصل الإجتماعي، وتستغل عواطف الناس وظروفهم المعيشية بتقديم إغراءات إجرامية بغية إنخراط الشباب في الإعمال الإرهابية عبر التجنيد والمبايعة للتنظيم وصولاً لتنفيذ عمليات القتل والتدمير، لينتهي دور هذا المفجر المخدوع بشكل مأساوي كضحية تم الإيقاع بها في براثن الإرهاب، وهناك بالطبع من يعتنق الإرهاب بقناعة وعدوانية ضد مجتمعه وأسرته. ويبدو أن التحالف يتعاون مع دول مؤثرة مختلفة لكسب تأييدها أو دعمها في سبيل محاربة الإرهاب وهذه سياسة ذكية ستكون منطلقاً لإنضواء الكثير من دول العالم الأخرى حتى من أوروبا تحت سقف قبة هذا التحالف الذي لم يضع أي شرط لعضويته وإنما فقط الإقتناع والمشاركة في محاربة الإرهاب من خلال الرؤية المستقلة للتحالف.
أما الحدث الأبرز مؤخراً فهو إنعقاد مؤتمر رؤساء أركان جميع دول هذا التحالف بالرياض نقلت أجزاء منه وسائل إعلام محلية وأجنبية، ومما رشح عنه تصميم هذه الدول على إكمال المسيرة وتنفيذ أعمال ميدانية ومبادرات مختلفة وبرامج فكرية وإعلامية وأمنية تحتاجها دول بعينها لمواجهة خطر الإرهاب، وهذا الجهد الجماعي تدعمه مباشرةً دولة المنشأ والمقر “السعودية” قائدة التحالف، وجميع الدول الأعضاء. ومن خلال الصور التي وزعها الإعلام لهذا المؤتمر، اللافت مشاركة أعلام دول كبرى في ذلك اللقاء، ويبدو أن ذلك دعماً لتوجه التحالف، وهذا دليل مهم يثبت جهود الدول الإسلامية ضد الإرهاب، وينفي عنها وعن عقيدتها ذلك الإتهام الظالم الموجه أساساً للدين الإسلامي!. علماً بأن هناك دول أعضاء بالتحالف ليست إسلامية مثل كينيا وغيرها أقتنعت برسالة التحالف وأهميته، وهذا دليل آخر على أن التحالف فريد بخدمته للعالم وترحيبه بعضوية كل من يساند الحرب على الإرهاب ويرفض مبرراته مهما كانت بغض النظر عن الأديان والثقافات والأعراق، وقد برز ذلك التوجه في الكلمات العلنية التي ألقاها رئيس أركان القوات المسلحة السعودية الفريق ألأول الطيار الركن فياض بن حامد الرويلي رئيس جلسة المؤتمر، وفي كلمة الأمين العام للتحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب اللواء الطيار الركن محمد بن سعيد المغيدي خلال إجتماع رؤساء الأركان بالرياض في يوم الأربعاء 13 ديسمبر 2023م.
وقد ذكر لي صديق من إحدى دول التحالف الإفريقية مشارك بوفد بلاده، مدى إعجابهم وجميع المؤتمرين بمستوى عمل التحالف وبنظام حوكمته وخُططه ومبادراته، ومحتوى بياناته المعلوماتية والإدارية والفنية ألتي أنجزتها أمانة التحالف بأمينها العام المتخصص في مواجهة الإرهاب وبناء قواعد الأمن التي تقف ضده، وذكر إشادتهم جميعاً بجهود المملكة التي أنشأت التحالف وقامت بتمويله والصرف على مشاريعه ومركزه المتخصص وموظفيه، وهذا مبعث فخر واعتزاز لنا ولحلفاءنا ولكل المخلصين، بأن المملكة الرائدة أنشأت مع حلفاءها تحالفاً غير مسبوق هدفه هزيمة الإرهاب والتصدي لأفكاره ودعاياته وقطع شرايين تغذيته بأموال المخدرات التي يتم تبييضها بطرق الإحتيال.
أتمنى أن يجد هذا التحالف دعماً مباشراً من كل مثقف ومفكر على مستوى العالم لحماية الحضارة الإنسانية وحياة البشر والتسامح بين الشعوب والثقافات، من قتنة الإرهاب والغلو والتطرف العنيف الموجودة بجميع القارات وبأشكال مختلفة. يستحق هذا التحالف دعم الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان وجميع الأديان في العالم. بل ويستحق جائزة نوبل للسلام فهو تحالف للسلام والتسامح والوئام. هذا التحالف يختلف كلياً عن تحالف دعم الشرعية في اليمن الذي تقوده الممكلة، مع أن هذا ألأخير جاء لمحاربة إرهاب مدبر عصف باليمن وها هُم اليوم بأوروبا وأمريكا الشمالية وروسيا والصين يشاهدون بالدليل ثبوت صحة مواقف المملكة وحلفاءها من كافة المنظمات والجماعات الإرهابية المتعاونة فيما بينها. غير مستبعد ولو بعد حين إنضمام إيران وإسرائيل للتحالف في ظل ظروف إيجابية قد تسمح بذلك مستقبلاً!.
كتبه: عبدالله غانم القحطاني
@Gen_Abdullah1