حين جاءتني الدعوة الكريمة من الكابتن سامي، قائد فريق “هايكنج المدينة”، أحسست بشيء لم أشعر به منذ زمن طويل. بدت الدعوة وكأنها رسالة تقول لي: “أنت قادرٌ، وأنت تستحقُ أن تكون جزءًا من هذه التجربة”. أن أكون أول كفيف يشارك في رحلة هايكنج دولية على مستوى الدول العربية لم تكن مجرد فرصة، بل تحدٍ لمفاهيم قديمة، وخطوة نحو تغيير النظرة المجتمعية لذوي الإعاقة.
امتلأت بالحماس، لكن القلق كان يرافقني. كنت أتساءل: هل سأكون على مستوى التوقعات؟ هل سيتقبلني أعضاء الفريق؟ رغم تلك الأفكار، قررت المضي قدمًا، مستندًا إلى ثقتي بنفسي، وبإيمان الكابتن سامي بي وبقدرتي على تجاوز التحديات.
الليلة الأولى: ديزرت بلز – دفء القلوب في برد الشتاء
وصلنا إلى مخيمات ديزرت بلز في وادي رم. البرد كان قارسًا، لكن حرارة الاستقبال من المنظمين وأعضاء الفريق كانت كفيلة بتدفئة القلوب. تجمعنا حول مائدة عشاء تقليدية، فتلاقت الأرواح قبل الكلمات. تسابقت الأحاديث بخفة، وكأننا أصدقاء منذ سنوات. أدركت في تلك اللحظة أن المخاوف التي كنت أحملها بدأت تتلاشى، وأن ما ينتظرني هو تجربة إنسانية استثنائية.
وادي رم: لوحة ربانية تنطق بالجمال
استيقظنا مع شروق الشمس، ووجدنا أنفسنا وسط لوحة ربانية تفيض بالجمال. امتدت أمامنا صحراء وادي رم بتكويناتها الصخرية الفريدة، التي بدت كأنها تعانق السماء.
بدأنا بزيارة صخرة الفطرة، تكوين صخري مهيب يبدو كتحفة نحتها الزمن. توقفنا عند مغارة رمسيس، حيث تعرفنا على أسرار تاريخها، وجربنا بأيدينا تحويل التربة المحلية إلى زينة نسائية، في تجربة أعادتنا إلى تراث المنطقة. بعد ذلك، انطلقنا إلى وادي الألوان، وتباين ألوان التربة أدهشنا. كان التعرف على الإبل وطبائعها تجربة مميزة، شعرت فيها بترابط الإنسان مع الطبيعة.
جسر الخرزة: انتصار الروح
عند وصولنا إلى جسر الخرزة، أطول جسر طبيعي في العالم، بدا لي أنني أمام تحدٍ جديد. المشهد كان مهيبًا. توقفت لبرهة، مستجمعًا قواي، ثم عبرت الجسر بشعور مملوء بالانتصار. التقطنا الصور التذكارية، لكن ما ظل محفورًا في ذاكرتي أكثر من الصور هو الإحساس الذي رافقني: أنني قادر على التغلب على كل مخاوفي.
البترا: أسطورة منحوتة في الصخر
في اليوم الثاني، توجهنا إلى البترا، جوهرة الأردن، وأحد عجائب الدنيا السبع. بدأنا بالمرور على القطار العثماني القديم، الذي أخذنا في رحلة قصيرة إلى حقبة تاريخية مضت. توقفنا عند عين النبي موسى، التي تحمل رمزية دينية كبيرة، قبل أن نبدأ رحلتنا عبر الممرات الجبلية الضيقة المؤدية إلى الخزنة الشهيرة.
حين وصلنا إلى الخزنة، كان الزمن يبدو وكأنه توقف. تلك الأعمدة والنقوش المحفورة في الصخر تنقل قصص الأنباط وحضارتهم العريقة. زرنا متحف البترا، وتعرفنا على كنوز أثرية تسرد تاريخ المكان، ثم وقفنا أمام القبور القديمة التي تأخذك إلى أعماق الزمن. تمثّل البترا أكثر من مجرد موقع أثري؛ كانت تجربة روحية تدفعني للتأمل في عظمة الإنسان والطبيعة معًا.
سيق عفرا: الحلم الذي صار حقيقة
اليوم الثالث كان الأكثر تأثيرًا. وصلنا إلى سيق عفرا بين الكرك وضانا، الممر المائي المحاط بالجبال. النزول إلى السيق لم يكن سهلًا، لكنه كان يستحق كل خطوة. لأول مرة في حياتي، توضأت بماء جدول جارٍ وسط الصحراء. وقفت هناك، أستشعر جلال الطبيعة من حولي، وبصفاء روح لا يمكن وصفه.
كان هذا المكان تحقيقًا لحلم راودني لعشرين عامًا. أن أقف هناك وأستشعر الجمال بكل حواسي كانت لحظة لا تُنسى.
عمان: قلب التاريخ والحضارة
في اليوم الرابع، توجهنا إلى عمان، حيث زرنا منطقة أهل الكهف، واطلعنا على القصة التي خلدها القرآن الكريم. بعد ذلك، صعدنا إلى جبل القلعة، ووقفنا أمام معبد هرقل وآثار أربعة عصور تاريخية مرت بهذه المدينة. المناظر من الأعلى تخطف الأنفاس، والتاريخ ينبض في كل حجر.
اختتمنا جولتنا بالنزول إلى المدرج الروماني، رمز الحضارة القديمة، ثم تجولنا في الأسواق الشعبية. المحطة الأخيرة كانت عند محل “حبيبة”، حيث تذوقنا الكنافة الأردنية الشهيرة، وكانت بحق ختامًا مميزًا ليوم مليء بالمشاعر.
وادي زوبيا: الطبيعة تحتضن الروح
بعد ذلك، انطلقنا إلى وادي زوبيا في عجلون. امتد المسار لتسعة كيلومترات وكان مرهقًا، لكن الطبيعة التي أحاطت بنا من كل جانب كفيلة بإزالة كل تعب. الهواء العليل وصوت العصافير كانا كأنشودة تبعث الطمأنينة في النفس. انتهى اليوم بوجبة غداء في منتجع عجلون، وشعرنا جميعًا بأننا جزء من لوحة طبيعية بديعة.
التكريم: رسالة حب وامتنان
عند عودتنا، كانت المفاجأة الكبرى في انتظاري. قام فريق “هايكنج المدينة” بتكريمي كأول كفيف يشارك في رحلة هايكنج دولية. امتلأت اللحظة بالمشاعر الجياشة. غمرتني مشاعر الفخر والامتنان لكل من آمن بي ودعمني. الكابتن سامي كان قائدًا ملهمًا، وأعضاء الفريق كانوا أكثر من مجرد رفاق رحلة؛ كانوا عائلتي التي ساندتني في كل خطوة.
خلاصة التجربة: جسور إلى الأحلام
هذه الرحلة لم تكن مجرد مغامرة، بل كانت درسًا في الثقة، والإرادة، والتعاون. أدركت خلالها أن التحديات ليست سوى جسور تقودنا إلى أحلامنا. الفريق الذي رافقني لم يكن مجرد فريق؛ كانوا أشخاصًا تركوا في قلبي ذكرى لا تُنسى.
غادرت الأردن بروح مليئة بالامتنان، وبقلب يحمل ذكريات ستظل باقية إلى الأبد. ستبقى هذه الرحلة شاهدة على أن الأحلام ممكنة، وأن المجتمع يسير بخطى حقيقية نحو دمج المكفوفين في كل مجالات الحياة.