
لا تبدأ الحكايات العظيمة بانفجارٍ أو ضوضاء، بل بولادة فكرةٍ صغيرة تترعرع بين أصوات الطبيعة، بين عطر الرياحين وهمس الحكايات عند الفجر. في قرية هادئة، كان طفلٌ يُصغي أكثر مما يتكلم، يحفظ المشاهد في ذاكرته كأنها كنوزٌ ثمينة، يراقب خطوات أبيه العائدة من الحقول، ويرسم في ذهنه صور الحياة البسيطة بتفاصيلها الحيّة. هذا الطفل كبر، لكنه لم يغادر قريته أبدًا؛ حملها معه أينما ذهب، نثرها على صفحات كتبه، وبثّها في مقالاته وقصصه، حتى صار اسمه مرادفًا للسرد الذي ينبض بالحياة، للسرد الذي يشبهنا.
البدايات.. حين تتنفس الكتابة من نسمات الريف
يؤمن محمد الرياني أن الطفولة هي الجذر العميق لكل إبداع، فالنصوص العظيمة لا تُكتب في العزلة، بل تُستمد من الحياة اليومية، من صوت الدجاج عند الفجر، من صيحات الباعة الجائلين، من زغاريد الأفراح ودموع الوداع. هذه التفاصيل الصغيرة، التي ربما يعبرها البعض دون اكتراث، شكّلت وجدانه السردي، وأصبحت فيما بعد بصمته الخاصة، حيث يكتب القصة وكأنها مشهدٌ يُبثّ أمامنا دون مؤثرات أو تصنّع.
يقول الأستاذ والإعلامي محمد الرياني لصحيفة “الرأي” وُلدتُ في قرية هادئة جميلة ورائعة وفيها مواصفات الريف بكل تفاصيله الجميلة ، حياة الرعاة وأصوات العصافير واجتماع النساء عند الشروق للحديث عن تفاصيل الليل وعن أحداث القرية فيما يجتمع بفناء الدار في حارتنا وغيرها الدجاج الذي هبط من المنامات بعد ليل طويل ، وتختلط أصوات الدجاج بأصوات البقر وضجيج ذهاب الأغنام نحو المرعى ، ويأتي من جهة السوق القديم صوت بائع السمك المشوي وبائع الخضار المتجول وأحيانًا بائع القماش الذي يجوب الأزقة على حماره الوديع ، وفي القرية رأيت النساء يقطفن الرياحين والحناء كي تَجْمُل مناسباتهن بشذى وعبير الريحان وجمال الحناء ، هذه التفاصيل وتفاصيل غيرها ارتسمتْ في ذاكرة طفولتي لتكبر معي وأظل أشعر بجمال وروعة البيئة والطفولة حتى وإن تقدم العمر ”
القصة.. ذاكرة المجتمع وروحه الحية
ليست القصة عند الرياني مجرد حكاية تُروى، بل مرآة تعكس ملامح الحياة بكل ما فيها من حب وفرح وألم واشتياق. هو الكاتب الذي عاش تجارب المجتمع قبل أن يخطّها، رأى دموع المودعين في محطات السفر، وعاش لحظات الفرح البسيط في أعراس الريف، وشهد كيف تسرق السيول أبناء القرى، فكتب عنها بصدقٍ يلامس القلوب.
بين الصحافة والتعليم والأدب.. تكامل الأدوار
ليس سهلًا أن تكون معلمًا وصحفيًا وأديبًا في آنٍ واحد، لكن الاستاذ الإعلامي محمد الرياني استطاع أن يخلق من هذه المجالات نسيجًا متجانسًا صاغ شخصيته الأدبية والإعلامية. الصحافة منحته القدرة على التقاط اللحظات الآنية وصياغتها بحرفية، والتعليم جعله قريبًا من جيلٍ جديدٍ من القراء، أما الأدب فكان ملاذه الأجمل، حيث يكتب بحرية ودون قيود. ولا يمكن الحديث عن رحلته دون الإشارة إلى علاقته المبكرة بالإذاعة، تلك النافذة التي أطل منها على العالم منذ طفولته .
وأشار الرياني بحديث شيق إلى صحيفة ” الرأي ” حين كشف عن بداية تعلقه بالإذاعة حيث قال ” وأنا في عمر الرابعة أو قبل الخامسة ظللت ألحُّ على أمي لتصنع لي مذياعًا فكانت تحتال عليَّ بعلب الكبريت والصناديق الورقية الصغيرة وتضع لها بضع الإضافات من أجزاء الأحذية وتقنعني بأنها راديو حتى جاء ابن عمي من الرياض ومعه راديو ونشأت بيني وبين الإذاعة علاقة وطيدة إلى اليوم ” والتي قادته لاحقًا ليكون متحدثًا رسميًا ومديرًا للإعلام التربوي في جازان، ومسهمًا في العديد من المشاريع الإعلامية والثقافية.
المبادرات الثقافية.. مسؤولية الكاتب تجاه مجتمعه
الكتابة ليست عزلة، بل حضورٌ فاعلٌ في المشهد الثقافي، وهذا ما أيقنه الرياني منذ سنواته الأولى في العمل الأدبي والإعلامي . يقول الأستاذ محمد ” على مدى العمر الطويل الذي أمضيته في التعليم والإعلام والأدب فإنني أعتز بمعرفة العديد من رموز الإعلام السعودي الذين تربيت على سماع أصواتهم ولا شك أن الرمز الإعلامي بدر كريم يرحمه الله هو الإعلامي الذي تأثرت به وما أزال أتذكر برامجه التاريخية مثل دعوة الحق وفي الطريق وتحية وسلام ولي صداقة بابنه المذيع ياسر بدر كريم ، كما أنني من المعجبين بالمذيع حسين نجار حفظه الله ، وشرفت بمعرفته أكثر عندما قدم ليقدم حفل جائزة الأمير محمد بن ناصر للتفوق قبل أن تكون جائزة جازان الإبداع قبل عشرين عامًا وكنت في ذلك الوقت رئيسًا للجنة الإعلامية للجائزة وهذا التكليف من المهمات التي أعتز بها ، والمبادرات التي قدمتها في المجالات المختلفة كثيرة ومنها إنشاء صحيفة جازان التربوية عام ١٤٣٢هـ وكنت رئيس تحريرها أيضًا وكذلك برنامج المنتدى الأدبي الطلابي الذي أحدث ثورة أدبية على مستوى وزارة التعليم ليكون الآن من أهم البرامج الثقافية على مستوى وزارة التعليم ولتكون منطقة جازان هو الوجهة الأدبية في كثير من المناسبات ، وأعتقد أنني وعلى مدى أربعة عقود من العمل فإنني استطعت أخدم وطني الغالي في مواقع مختلفة سواء في التعليم الذي هو عملي الأساسي أو من خلال العضويات على مستوى إمارة المنطقة أو على مستوى النادي الأدبي سواء في لجنة المطبوعات أو الإشراف على البرامج الثقافية في النادي الأدبي أو على مستوى وزارة التعليم وهذا ساعدني في التعرف على معظم أدباء المملكة ومثقفيها والتربويين وفي مختلف فنون الأدب
الالتقاط والتأمل.. سرّ السرد المتميز
أن تكون كاتبًا يعني أن تكون راصدًا للحياة، تتأمل أدق التفاصيل، وتحوّل المشاهد العابرة إلى نصوصٍ نابضة. هذا ما يفعله الرياني يوميًا، حيث يكتب باستمرار، لا ينتظر الإلهام، بل يصنعه. يلتقط المشاعر قبل الأحداث، ويترجمها إلى قصصٍ يجد فيها القرّاء أنفسهم.
وحين سألت صحيفة “الرأي” الرياني عن أكثر المشاهد أو اللحظات التي ألهمتك في مسيرتك ككاتب؟
أجاب : أن ” الحياة التقاطات كلها ، والأديب هو الذي يلتقط من الحياة ليترجمها إبداعًا وإمتاعًا ، وهذه ميزة أعترف بوجودها عندي ولأني كثير الالتقاطات والتأمل والخيال فإنني غزير الإنتاج ” “وأنا بطبعي كثير التأمل وواسع الخيال والحالات الإنسانية تستدعيني لأكتب عنها كثيرًا ” وأضاف أن ” الحياة جميلة ورائعة والأدب الجميل هو الذي يأتي بالحدائق والعصافير والسنابل وأصوات الفلاحين في مواسم الحصاد وصور الحناء في كفوف البنات كي نرى من خلالها جمال السرد وروعته
أحد عشر اصدارًا يحمل نبض الأرض
من “ليلة على الرابية” إلى “أرجوحة تالين”، ومن “جدران الطين” إلى “بائع الفرح”، كل إصدارٍ من أعماله يحمل رائحة الأرض وصوت الحياة. هو لا يكتب عن الماضي فقط ، بل يعيد ألقه من جديد، يجعله حيًا في سطورٍ تتزاحم بالجمال والبساطة والدفء. ورغم أن كل مجموعة تحمل طابعًا خاصًا، إلا أن القاسم المشترك بينها جميعًا هو ذلك الحسّ الإنساني العميق الذي يربط القارئ بالنص كما لو أنه يقرأ نفسه. ويقول ” أرى أن مجموعاتي القصصية الأخيرة هي ذروة المجموعات والقمة في النضج اللغوي والفني “.
الصحافة بوابتي للأدب
يقول الرياني متأملًا رحلته مع الصحافة والأدب: “الكتابة الصحفية كانت نافذتي الأولى إلى العالم، وبداياتي فيها لم تكن مجرد تجربة عابرة، بل كانت نواة تكويني ككاتب. كنت شابًا صغيرًا حين تفتحت عيناي على الصحف، ولم يكن مجرد قراءتها كافيًا لي، بل كنت أريد أن أكون جزءًا من هذا العالم المليء بالحروف والأفكار. كنت أكتب على أوراق مسطرة، وأضعها في مظاريف أرسلها بالبريد إلى الصحف، دون أن أعرف يقينًا إن كانت ستصل أم لا، لكنني كنت مؤمنًا بأن الكلمة الصادقة تجد طريقها دائمًا.”
لم يكن امتلاكه لخط جميل وأساليب لغوية متقنة مجرد تفاصيل عابرة، بل كانت عوامل ساعدت في لفت انتباه رؤساء التحرير ومديري الصحف إليه. فقد بدأ بنشر مقالاته، ثم قصصه القصيرة، ومن هناك تشكلت هويته الأدبية التي جمعت بين دقة الصحفي وعمق الأديب.
ويتابع الرياني: “الصحافة منحتني الحدة في التقاط التفاصيل، والدقة في اختيار الكلمات، والقدرة على كتابة نصوص مكثفة دون أن تفقد روحها. لا يمكنني الفصل بين الصحفي والأديب في داخلي، فكل مقال كتبته، وكل قصة نشرتها، كانت مزيجًا من الدقة الصحفية والجمالية الأدبية. قربي من الملاحق الثقافية وعلاقاتي مع رؤساء التحرير والمثقفين جعلتني أتنفس الأدب عبر الصحافة، وأعيش الصحافة بروح الأديب
بين الورق والشاشة.. مستقبل القصة والرواية
رغم التحولات الرقمية، يؤمن الرياني أن الأدب لن يندثر، بل سيتكيّف مع العصر الجديد. يرى في هذا التطور فرصة للأصوات الجديدة، ويشجّع كل من يملك موهبة على أن يكتب، أن يوثّق اللحظة، أن يكون شاهدًا على زمنه بالكلمة.
ويرى الكاتب القصصي والاعلامي الاستاذ محمد الرياني أن :
“الشباب هم عماد أي دولة في العالم وهم مستقبلها المشرق”، وبهذه العبارة يختزل الأستاذ محمد رؤيته لدور الشباب في المشهد الأدبي، مؤكدًا أن صناعة الكاتب تبدأ من الإلهام والتوجيه الصحيح. فمن تجربته كمعلم ومشرف على النشاط الأدبي، كان شغوفًا بتنمية المواهب الأدبية، مشددًا على أهمية القراءة والإملاء بوصفهما حجر الأساس للكتابة المتقنة، إلى جانب النحو والإعراب والتأمل والخيال، التي تعزز الحس الأدبي.
وفي ظل الانفتاح المعرفي الذي يشهده العالم اليوم، يرى الرياني أن الفرص أصبحت أكثر اتساعًا أمام الشباب للاستفادة من الثقافات المختلفة، شرط أن يمتلكوا الوعي الكافي لاستثمارها بذكاء، وأن لا يغفلوا عن حكمة وتجارب من سبقوهم، فالأدب ليس مجرد حروف تُكتب، بل تجربة حياة تتشكل بين الإبداع والرصانة.
بصمة الكاتب بين الواقع والخيال
لكل كاتب بصمته الفريدة التي تنعكس في أسلوبه ومدرسته الأدبية، حيث تظهر ملامح بيئته وثقافته في كتاباته، سواء تأثرًا بمن سبقوه أو استلهامًا من الواقع من حوله. فالكتابة ليست مجرد حروف تُسطر، بل هي امتداد لتجربة عميقة تنبض بالحياة.
الأستاذ محمد الرياني يجد في أدب الريف وأدب الالتقاطات اللحظية من واقع الحياة مصدر إلهامه الأساسي، حيث تتداخل المشاهد اليومية التي يلتقطها من “شارع الحياة” مع حس إنساني رقيق يمنح نصوصه عمقًا وأصالة. الطبيعة بمكوناتها—المطر، السيل، العصافير، الحقول، الحدائق—تغمر قصصه بروح الحياة، إلى جانب تجسيده لمشاعر الفرح، الحب، الشفقة، والإحسان، مما يجعل كتاباته لوحة نابضة بالتفاصيل الإنسانية.
ويرى الرياني أن الكتابة تنمو مع الإنسان في كل مراحله؛ فالطفولة تبقى حاضرة في حروفه، والشباب يظل مشرقًا في أفكاره، ومع مرور الزمن تتغير الرؤى، لكن يظل القلم شاهدًا على التحولات، يرسم ملامحها في كل حرف يُكتب.
ختامًا :
الأستاذ محمد الرياني نموذج فريد يجسد التوازن بين الحرف والفكر ، بين الماضي والحاضر بين الحلم والواقع في كلماته وكتاباته.
وهكذا يبقى شاهدًا على زمنه، ليس فقط بما كتب، ولكن بما تركه في قلوب قرائه وطلابه، وفي ذاكرة الصحافة والأدب والتعليم، كواحد من الذين لم يمرّوا عبورًا عابرًا، بل تركوا أثرًا يروي للأجيال القادمة أن الكلمة الصادقة، حين تخرج من قلب مؤمن برسالته، تبقى حيّة مهما تغيّرت الأيام.