
لم يكن التاريخ مجرد مداد على ورق، ولا التراث مجرد مقتنيات قديمة تُعرض في المتاحف، بل هو ذاكرة حية تشع بالحكايات، وهوية تتدفق فيها التفاصيل التي نحياها ونمارسها دون أن ندرك قيمتها الحقيقية.
في جازان من بيئاتها المتنوعة وفي عمق تهامة، حيث تشكل الرمال والرياح قصصًا لا تنتهي، نشأ محمد أحمد النجمي، رجلٌ حمل في روحه عشق الأرض، وفي قلبه ولاء للوطن، حتى غدا شاهدًا على لحظتين فارقتين في حياته؛ الأولى حين نذر نفسه للدفاع عن حدود الوطن الغالي، والثانية حين وجد أن جزءًا كبيرًا من تراث منطقته يُطوى في صمت، فقرر أن يكون صوته الصادق أداةً تحيي هذا التراث وتعيد له مكانته في الذاكرة عبر الأجيال.
متقاعدٌ بسبب إصابة أثناء تأدية واجبه الوطني في عاصفة الحزم، لكنه لم يكن يومًا متقاعدًا عن الوفاء لهويته، بل اختار طريقًا آخر لخدمة مجتمعه، وهو توثيق تراث تهامة، ذلك الإرث الذي يرى أنه لم يُمنح حقه من الحفظ والتوثيق.
في هذا الحوار، نتجول بين صفحات هذا الشغف، ونسافر عبر أزمنة التهاميين في منطقة جازان ، لنسمع منهم ما كان ينبغي أن يُكتب بأيديهم قبل أن يتلاشى.
“من لا إرث له لا هوية له”
*ما الذي دفعك للاهتمام بتوثيق التراث التهامي؟
محمد النجمي:
“لم يكن الاهتمام بتوثيق التراث التهامي مجرد شغف عابر ولا نزعة ارتجالية بل هو واجب تحتمه الأصالة ويفرضه الانتماء التاريخ ليس مجرد حكايات تروى بل هو كيان يحيا في ذاكرة الشعوب فمن لا تراث له لا هوية له ومن لا يحفظ إرثه يذوب في دوامة النسيان تهامة ليست أرضاً عابرة ولا مجرد جغرافيا مرسومة على الخريطة بل هي روح متجذرة في عمق الزمن قبائلها لم تكن يوماً ظلاً لأحد بل هي أصلٌ قائم بذاته ورأسٌ مرفوع بعزته إلى ان دخلت تحت حكم هذه الدوله العظيمه لهذا كان لا بد أن يُكتب تاريخها بأيدي أبنائها أن يُوثق موروثها كما هو بلا تشويه ولا اجتزاء ولا انتقائية التاريخ لا يُؤخذ إلا من أفواه أهله ولا يُنقل إلا عن رجاله الذين عايشوه وورثوه فكان لا بد أن أكون صوتاً لهذا الإرث وأن أسجل حقيقته كما هي بعيداً عن التزييف والانتقاص.”
“بين ضياع التفاصيل وإرادة التوثيق”
*ما التحديات التي واجهتها في توثيق التراث التهامي؟ وكيف استطعت التغلب عليها؟
محمد النجمي:
“التحديات التي واجهتها لم تكن قليلة ولم تكن سهلة أولها كان ضياع الكثير من التفاصيل في ظل غياب التوثيق الحقيقي التراث الذي يُحفظ في صدور الرجال معرّض للاندثار إذا لم يجد من يحمله وينقله لم يكن الوصول إلى المصادر الأصلية سهلاً فكبار السن الذين حملوا هذا الإرث بدأ عددهم يتناقص وكان لا بد من البحث عنهم والاستماع إليهم قبل أن تندثر الروايات التي لم تُكتب كان لا بد من تفكيك الكثير من المعلومات المبعثرة بين مصادر مختلفة بعضها اجتهادات فردية وبعضها رؤى غير دقيقة كان هناك تحدٍّ في إقناع البعض أن ما يملكونه من معرفة ليس مجرد حكايات بل هو جزء من هوية تستحق أن تُحفظ كان لا بد من الصبر من البحث الدقيق من التأكد أن كل معلومة تُنقل كما هي لا كما يُراد لها أن تكون.
”حين تتحدث الحجارة .. المباني التهامية شاهدة على الماضي.
*أي من المباني التهامية قمت بتوثيقها؟ وهل هناك قصة أو تفاصيل تعتبرها لافتة للنظر؟
محمد النجمي:
“المباني التهامية متنوعة بين العشة والمدمك وغيرهما وكلٌ منها يحمل بصمته في معمار تهامة العشة ليست مجرد مأوى بل هي تكيف عظيم مع بيئة قاسية صُممت بطريقة تحفظ الحرارة صيفاً وتكسر البرودة شتاءً أما المدمك فهو هندسة تهامية خالصة قائمة على توازن الطين والحجارة او سيقان الأشجار المحلية كالأثل والسدر وغيرها من الأشجار المحلية والطريقة الفريدة في الترصيص دون الحاجة إلى وسائل حديثة قصص تلك المباني تروى بألسنة أهلها لا بكتابات مستشرقين فقط او من يجهلون حقيقتها اكتشفت أن هناك تفاصيل لم تُذكر أبداً في الدراسات التي نُشرت عن البناء التهامي بل كان بعضها مجتزأ ومقتصراً على الجانب الظاهري دون الغوص في فلسفة البناء كيف كانت القبائل تحدد موقع بناء العشة كيف يتم اختيار المواد وما الطقوس التي ترافق التشييد كل ذلك كان إرثاً حياً لم يصل إلى الناس كما ينبغي
*شرح للعشة
العشة ليست مجرد مأوى بل هي نموذج معماري يعكس ذكاء الإنسان التهامي في التكيف مع بيئته بمواد طبيعية محلية مثل أعواد السمر والسدر وسعف النخيل او الدوم صُممت بطريقة تضمن التهوية في الصيف وتوفر العزل الحراري في الشتاء مما يجعلها بيئة معيشية مريحة رغم الظروف المناخية الصعبة يتم بناؤها بأسلوب جماعي مما يعزز روح التعاون بين أفراد المجتمع ولم تكن مجرد بناء عشوائي بل كانت تعتمد على حسابات دقيقة في اختيار الموقع واتجاه الرياح لضمان أفضل تهوية واستقرار لم تكن العشة رمزاً للفقر بل كانت شاهداً على استدامة العمارة التقليدية وقدرتها على تحقيق الراحة بأبسط الموارد مما يجعلها نموذجاً يستحق التوثيق والحفاظ عليه.
*شرح أوسع للمدمك
المدمك بناء يُجسد عبقرية الإنسان التهامي في التعامل مع موارده المحدودة بطريقة تحقق أعلى درجات الصلابة والمتانة دون الحاجة إلى أي تقنيات حديثة يقوم على مبدأ توزيع الأحمال بحيث توضع الأحجار الكبيرة في الأسفل والصغيرة في الأعلى لضمان التوازن كانت هناك معرفة دقيقة بنوع التربة المناسب لكل مرحلة من مراحل البناء كان هناك توقيت محدد لكل خطوة بحيث يتم السماح للطين بالتماسك التدريجي دون أن يتشقق كانت هناك طريقة خاصة في رصّ الحجارة بحيث لا تترك فجوات تتسبب في ضعف البناء كان المدمك صامداً أمام الرياح والأمطار وأمام الحرارة والبرودة لأنه لم يكن مجرد جدار بل كان حصناً صُمم بذكاء ليبقى”
الأسلحة البيضاء والبنادق القديمة .. ذاكرة الفرسان.
*ما أبرز الأسلحة البيضاء والبنادق القديمة التي اشتهرت بها قبائل تهامة؟
محمد النجمي:
“تهامة لم تكن أرضاً فقط بل كانت موطناً للفرسان والسيوف والملاحم القتال لم يكن مجرد صراع بل كان شرفاً يُحمل على الحد الأبيض من
( السيف والحواشيات الذريع والجنبيه والجوفيه ) ، السلاح في تهامة لم يكن أداةً للقتال فحسب بل كان رمزاً للكرامة وللهوية وللمكانة الاجتماعية وحياتهم اليومية وما زالت الى يومنا هذا.
أما البنادق فقد كانت جزءاً من تراث القبائل وكانت تُستخدم في الحروب والصيد ومن أشهرها ( النبوت والميزر والمقمع ) لتي لطالما تغنى بها الشعراء في قصائدهم الشعبية وظلت محفوظة حتى اليوم يتوارثها الأبناء عن آبائهم تقديراً لمكانتها.”
حين يكون الناس هم المصدر الأول
*ما المرجع أو المصادر التي تعتمد عليها في جمع معلوماتك حول التراث التهامي؟
محمد النجمي:
“المصدر الأول هم أهل التراث أنفسهم فالتاريخ لا يُكتب من بعيد ولا يُنقل من خارج دائرته كان الاعتماد الأكبر على الروايات الشفوية من كبار السن من الشيوخ والرواة مِن مَن عاشوا هذا التراث قبل أن تُطوى صفحاته وتندثر تفاصيله لم يكن التوثيق مجرد بحث نظري بل كان غوصاً في ذاكرة القبائل وسماعاً للتفاصيل الدقيقة التي لم تُدوّن في الكتب كان
لابد من البحث في مصادر متعددة والتأكد من صحة كل معلومة قبل أن تُنقل حتى لا يكون التوثيق مجرد اجتهاد بل يكون شهادة حقيقية لهذا الإرث العظيم.”
نقش النورة .. الفن المنسي في ذاكرة الجدران.
إذا كان بإمكانك إعادة تقديم أحد جوانب التراث التهامي المفقودة، ما هو ذلك الجانب؟
محمد النجمي:
“هناك جوانب كثيرة من التراث التهامي لم تُبرز كما يجب ولكن أكثرها ظلماً كان نقش النورة لم يكن نقش النورة مجرد زينة تُرسم على الجدران بل كان فناً قائماً بذاته يحمل رموزه ودلالاته وأسراره التي لم تُشرح كما يجب أجريت بحثاً مرهقًا في تفاصيله وتتبعته من المنازل القديمة إلى روايات من عايشوه كان هناك طرق دقيقة في تحضير الألوان لم تكن الأصباغ تُشترى جاهزة بل كانت تُستخلص من الطبيعة من الحجارة والنباتات والفحم والكحل والرماد والمواد المحلية التي جعلت كل نقش له بصمته الفريدة لم يكن العمل في نقش النورة مجرد عملية تزيين بل كان طقساً ثقافياً يرتبط بالمناسبات وبمراحل البناء وبالهوية الاجتماعية كان هناك فن في ترتيب الخطوط واختيار الألوان وطريقة رسم الرموز التي لم تكن عبثية بل كانت تحمل في طياتها معاني تتصل بالمكان والناس لم يكن نقش النورة فناً سطحياً كما قد يُعتقد بل كان علماً متكاملاً لم يُنقل بالصورة الصحيحة ولم يُعطَ قيمته الحقيقية.
إرث …وموروث
كما أن هناك جوانب أخرى لم تُعرض بصورة صحيحة، مثل:
• الأزياء الشعبية، التي تعرض اليوم بصور لا تعكس حقيقتها.
• الأهازيج الشعبية، التي لم تُجمع ولم تُحفظ بالشكل اللائق.”
البحث عن النورة.. خطوة نحو التوثيق الرسمي
“أعددت بحثًا متواضعًا حول نقش النورة، وهو محاولة بسيطة لكنها خطوة أولى نحو توثيق هذا الفن وإبرازه. وآمل أن تتبنى وزارة الثقافة أو الجهات المعنية هذا العمل، ليكون إنجازًا للمنطقة بأكملها.”
وفي حديثه لصحيفة “الرأي” عن دور القيادة الرشيدة في الحفاظ على الهوية والتراث.
قال النجمي :
“لا يمكن الحديث عن التراث دون الإشادة بدور قيادتنا الحكيمة، ممثلةً في خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، اللذين أرسيا رؤية تحفظ الهوية الوطنية بكل تنوعاتها الثقافية. كما أشكر أمير منطقة جازان الأمير محمد بن ناصر، وسمو نائبه الأمير محمد بن عبدالعزيز، على حرصهما على إبراز الموروث الثقافي الأصيل.
ختاما ..
هكذا يتحدث محمد النجمي، وهكذا وثق شغفه بالتراث بيديه، ليُعيد لذاكرة تهامة حضورها، فلا يكون الماضي مجرد ظلال تتلاشى، بل إرثٌ يبقى للأجيال القادمة. ليظل محمد النجمي أحد أولئك الذين حملوا شعلة حفظ التراث جسرًا نحو المستقبل , حيث لا ننسى , ولا نتجاهل ’ بل نحتفل بكل لحظة ونفحة من تاريخنا الجميل.