كثيرًا منا يشتكي كثرة نسيانه، ويعزو ذلك إلى ضعف ذاكرته، وهو لا يدري أنه أهملها بل وملأها بالكثير مما يعتقد أنه مهم دون حرص منه على جدولة الأولويات فيها، فيجعل بعض الأمور تقفز من مكانها في الذيل لتتصدر المشهد العقلي لديه وتنسيه المهم.
للإنسان ذاكرتين إحداهما قريبة جدًا لا يتجاوز عملها ال٣٠ ثانية، وهذه تبدو واضحة جدًا للذين يعانون من مرض ألزهايمر حين يتذكر ما أمامه ليعود بسرعة لنسيانه.
وذاكرة بعيدة تعود بنا إلى زمنٍ ماضٍ وبعيد، نسترجع ما فيه من ذكريات، كذكريات الطفولة أو المواقف الموغلة في الحزن أو الفرح.
ويمكننا أن ندرج بين الذاكرتين ذاكرة مزدوجة، وهي تلك الذاكرة الدّارجة عند عامة الناس وتجمع بين القريب والبعيد، وغالبا هذه هي التي يعتمد عليها الجميع في تعاملهم الذهني اليومي والدائم،
الذاكرة البعيدة هي التي نستطيع أن ندلف إلى تلافيفها بأمزجتنا، وفينا من يجعلها ضياء يسير به في أنفاق من الإحباطات والانكسار ليعود للحياة من جديد، وفينا من تكبله هذه الذاكرة حتى تسقطه بالضربة القاضية طريحًا للأوهام والفشل.
مسؤولية ملء ذاكرتك أنت من يتحملها فإما أن تستخدم فلتر لتنقية كل ما تود الاحتفاظ به وتبقي كل ما هو جميل، وتستبعد المواقف المؤلمة والسخيفة أو على أقل تقدير تجعل كل أليم في ذاكرتك بمكان آمن لا يتسلل منه لعقلك ما يؤذيه وتكتفي بما تود أن تراه وتعيشه من لحظات تدفع بك للأفضل.
الذاكرة تضعف بالإهمال وعدم التدريب، وتراكم القناعات التي قد تحتاج إلى تهذيب وإعادة نظر،
بل والذاكرة تشيخ ويتسلّل إليها وحوش مدمرة تلتف على مكونها (ومكون الذاكرة هو القدرة على الاسترجاع والتذكر والحفظ والمقارنة والنباهة والفهم) فتتلفه ويحلّ بدلًا من ذلك النسيان
وأللّاستيعاب وعدم التركيز ولن نقول الغباء والبلادة فهذه قد تكون صفات مكتسبة.
ولعل أبشع ما يمكنه أن يدمر ذاكرة الإنسان بلا إرادة منه، الأمراض العقلية كألزهايمر والهذيان وهذا أمر طبيعي جدا و إن كان مخيفًا أيضا ولكن هل في إمكان الإنسان أن يؤخر تقدم هذه الوحوش ويمنعها من الوصول إلى ذاكرته فتنشب براثنها فيها لتفتتها وتمسح كل ما علق فيها حتى أسماء أحب الناس والأماكن إلى قلبه.