منذ نصف قرن والعرب مثل الكرة تتقاذفهم إسرائيل وإيران وتركيا ولندن وواشنطن بسبب عبثية بعض الأنظمة العربية وآخرها النظام السوري الذي يحتضر. وقد حاولت القيادة السعودية طويلاً وبعض المخلصين من العرب تصحيح مسار السياسات العربية الخاطئة لتجنب هذا الخراب والإنهيار العربي الذي نشاهده اليوم بكل وضوح في الشام والعراق واليمن والصومال والشمال العربي الإفريقي وغيرها.
وإسرائيل إلى الآن ليس لها حدود سياسية معلنة من جانبها ومعترف بها دولياً. وجمهورية مصر العربية أعلنت الصلح الكامل مع إسرائيل. ولا حرب بدون مصر ولا سلام مثمر بدون السعودية وحلفاءها العرب، وسوريا والعراق كدولتين اصبحتا خارج المعادلة للأبد.
والعرب إجمالاً فشلوا في الحرب ضد إسرائيل، لكن مصر نجحت في تغيير قواعد اللعبة وهاجمت إسرائيل بالصلح وبالعلاقات والتفاوض فأستعادت أراضيها كاملةً، ولا تزال القاهرة منحازة للفلسطينيين ضد اسرائيل.
دولة الإمارات العربية المتحدة قررت أن تقيم علاقات كاملة ومعلنة مع إسرائيل، وهذا لقرار سيادي ويعود لها بلا شك ويبدو انه قرار مدروس ومنسق، ولم يأتي خدمة لأحد، بل رأت الدولة انه يصب في مصلحتها الوطنية أولاً وثانياً وعاشراً، وهناك نتائج متوقعة قد تكون جيدة وقد يعترف بنجاعتها البعض لاحقاً. وفي كل الأحوال اغلب العرب ليسوا سعداء بالتقارب مع إسرائيل مالم تسمح بقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس.
ولاشك أن الكثير يتساءل؛ وماذا عن السعودية، هل ستقيم علاقات مع اسرائيل؟!. والجواب بالقراءة “لا” مالم تحصل على الثمن غالياً ومقدماً وبضمانات. وإسرائيل لاتزال رسمياً وشعبياً بالنسبة للمملكة عدو، وإسرائيل أيضاً تصنف المملكة كعدو لها. والعداء السعودي لإسرائيل يأتي بسبب إحتلال إسرائيل لأرض الفلسطينيين وطردهم منها، وبسبب الإعتداءات على المسجد الأقصى وإحراقه، وعدم الإنصياع للقرارات الدولية ذات الصلة بفلسطين والعرب.
والمبادرة العربية التي هندستها المملكة تقول للإسرائيليين أعطوا الفلسطينيين دولتهم وحقوقهم وفي المقابل سنقيم علاقات كاملة معكم، وهذه المبادرة لم تحظى بدعم مجلس الأمن مع الأسف ولا المجتمع الدولي ولم تقبل بها اسرائيل، وتبدو صعبة التفعيل حالياً بعد هذه المدة الطويلة، لكن موقف المملكة ثابت ومبدئي، يقول اسمحوا بقيام دولة فلسطينية مقابل السلام الكامل مع كل الأقطار الإسلامية.
والمتابع المنصف سيجد أن السعودية ليس ضمن اهتماماتها بناء علاقات مع اسرائيل وليست متحمسة لذلك، وموقفها صلب ولديها منطلقات مختلفة واعتبارات مغايرة في هذا السياق. ولكن هل هذا يعني عدم تغير المواقف لاحقاً لكافة الأطراف؟؛ حتماً ستتغير وستنتهي حالة العداء الرسمي بين المملكة وإسرائيل وقد نرى يوماً علاقات ثنائية ولكن ليس بأي ثمن ولن يكون ذلك لصالح إسرائيل فقط كما تعودت في علاقاتها القائمة مع بعض الدول العربية والإسلامية، والإسرائيليون يعلمون ذلك جيداً ويدركون ان السعوديين واثقين دائماً في رسم سياساتهم وعلاقاتهم الدولية التي ينسجونها بحكمة على قواعد استراتيجية وليس لأغراض آنية ومناورات تكتيكية، ويعلمون أيضاً انهم لن يجاملون أي قوة في العالم بمن في ذلك امريكا في مسألة علاقات بلادهم مع اسرائيل.
والحقيقة التي يجهلها الكثيرون، أن إسرائيل في الواقع تخشى تأثير قيام علاقات طبيعية مع السعودية ولديها تقدير موقف شديد الحذر والتخوف من إنعكاسات ذلك على داخلها وعلى خارطتها الجيوسياسية، كما أنها تعلم يقيناً بأن الرياض ليست بحاجة لأي علاقة معها إلا بقدر ما ستوظفه لمصلحة قضية فلسطين والمنطقة العربية وضمنها إسرائيل كأي طرف آخر، هذا ما يدركه قادة تل ابيب اكثر من حكومات أوربا المنافقة، وأكثر من الرعاع أتباع طهران وأنقرة وأصحاب الشعارات المعروفة.
لقد أزعجتنا هذه التيارات المأزومة وبعض المرضى في الخليج والشام، المرتبطين بإيران والإخوان وتركيا، هؤلاء لايخجلون، ويتجاهلون عمداً أن دولة الإمارات ليست قوة عظمى يمكنها إمداد إسرائيل بأنواع الأسلحة لتقتل بها الفلسطينيين، وهي لن تدافع عن إسرائيل في المحافل الدولية، بل ستحاول التأثير الإيجابي قياساً بإمكاناتها لمصلحة قيام دولة فلسطينية بأي شكل، ومع ذلك فلن تحقق شيء مهم في هذا المجال اذا ما تذكرنا أن مصر العربية لم تستطع إقناع اسرائيل بقيام دولة فلسطينية على جزء قليل من أرضهم، ولم تتمكن من ايقاف قضم اراضي الضفة وتهويد القدس.
ويعلم العقلاء والبلهاء أن ما أثار حفيظة تركيا وإيران وخلايا الإخوان وأتباعهم ضد قرار أبوظبي، هو بسبب أن الإمارت بعلاقات معلنة مع إسرائيل قد تعطل مشاريعهم وتكشف اكاذيبهم وصولاً لسحب البساط من تحت اقدامهم، مع انهم يدركون ان الامارات لن تدخل في حرب مع اسرائيل ولن تغير استراتيجياً في نتائج الصراع قياساً بأصحاب الأرض والدول المجاورة لهم، لكنه الحقد والكراهية لدول وشعوب وقيادات مجلس التعاون الخليجي. وما الذي يجعل إيران وتركيا تهددان باستخدام القوة ضد الإمارات؟!، هذا جنون.
إن أي دولة بالعالم العربي والإسلامي وحتى الصين والهند، حينما تُقيم علاقات رسمية بإسرائيل فهي في الواقع تفتتح قنصلية بتل ابيب أو القدس الغربية ضمن علاقات المصالح مع الولايات المتحدة الامريكية، والباقي تفاصيل.
وخلال العشر سنوات القادمة وربما أقل منذ ذلك سنجد لجميع الدول العربية والإسلامية علاقات مباشرة بإسرائيل، وحتى إيران ستقيم علاقات مختلفة وقوية معها وسيكون هناك بينهما تعاون ضد العرب كما تفعل تركيا حالياً مستخدمة علاقاتها الإستثنائية مع إسرائيل!، وليتذكر الخبثاء والناعقين أن اسرائيل تتدرب في المجال الجوي التركي لتقصف العرب.
إن المخلصين لقضية فلسطين يتمنون على السيد الرئيس أبو مازن تغيير استراتيجية العمل نحو التحرر، واستغلال الممكن لحفظ ما تبقى، فكل شيء يتغير سريعاً يا سيادة الرئيس، والقادم سيكون أسوأ مع الأسف مالم يُتدارك الوضع. جربوا شيء مختلف، ومن خارج الصندوق، فقد اثبتت مصر ان اسرائيل قد تتنازل وتتراجع أمام الهجوم بالسلام، أما بغير ذلك من الأساليب التفاوضية القديمة والتقليدية فلا طائل منها طالما ان الخمسة الكبار المهيمنين على مجلس الأمن هم بكل قُواهم حقيقة اسرائيل.
سيادة الرئيس في مواجهة اسرائيل تفاوضياً لن تنجحوا دون وجود اخوانكم العرب على نفس الطاولة، تجاهلوا مسألة السيادة الوطنية خلال التفاوض حتى يتحقق الوطن أولاً. إسرائيل لاترغب بغيركم امامها للتفاوض كأشخاص لاتمثلون دولة مستقلة بالنسبة لها. العالم يقرر مستقبل ليبيا من خلال تركيا ومصر وغيرهما وليس حكومة السراج وبرلمان طبرق.
لا تهاجمون سياسة دولة الإمارات ياسيادة الرئيس ابو مازن كما تفعل إيران وتركيا، بل استغلوا هذا الحدث لصالحكم كما تفعل اسرائيل مع من يصادق اعداءها.
السعودية لمن يعرف تاريخها وقيادتها وشعبها واستراتيجيتها لن تطبع مع تل ابيب دون ثمن كبير وملموس هو السلام الشامل، وإسرائيل تدرك ذلك وتتهرب.
عبدالله غانم القحطاني
لواء طيار ركن متقاعد / باحث دراسات امنية واستراتيجية.