منحه الله تعالى الصبر وأكرمه بالشكر.. حياته كانت مليئة بالعمل الجاد والمعاناة والأحداث. وُلد بأقصى شمال طريب قبل قرن من الزمن إلاّ قليلاً، أنتقل وهو دون الخامسة من عمره برفقة والده ووالدته وأخيه وأخته إلى أرض جرداء تعود لجده بأعلى نقطة بجنوب الوادي. ظهر نبوغه في سن مبكرة فأعتمد عليه والده لعمارة الأرض ومواجهة المصاعب التي جاءت من كل صوب بسبب إحياء المكان وتوسيع مساحته. غادر صغيراً للظهران وعمل بها لمدة عام، وسرعان ما عاد ليقف مع والده في ظل ظروف صعبة ومليئة بالتحديات. نهض بدوره بنجاح تجاه عائلته وأرضه، وتكونت لديه علاقات وثيقة مع كل الناس حوله ونال تقديرهم. في ريعان شبابه أحترمه الكبار مثل الشيخ مريع بن حمد أبو دبيل، والشيخ سعد بن حسين بن فردان والشيخ هيف بن بن سعد بن سليم "رحمهم الله جميعاً". ألتحق متأخراً بفرقة المجاهدين لمدة 33 عاماً بالقرب من الحدود الجنوبية فتكونت لديه علاقات كبيرة وصداقات مختلفة ونال سمعة طيبة ومع ذلك بقي وفياً لأرضه ومزارع والده وإخوته. إنسان متواضع منذ شبابه لكنه مقدام وذو هيبة أينما حل. صحيح هو أبي.. لكن لم أرى بحياتي شخصاً بشجاعته وصلابة موقفه وأحترامه لكل الناس حتى أولئك الذين يتسقل البعض مكانتهم.
رحمه الله، كان مُولعاً بسلاح بندقية البلجيك بنوعيها الطويل والقصير، والشوزن والخنجر العربية. دقيق الرماية وإصابة الهدف وقد دربنا على ذلك. دوماً يحثنا نحن أبناءه على الصبر ويأمرنا بالتواضع ونبذ العنصرية باشكالها، ويوجهنا بالإخلاص في العمل كجزء من الدين والشهامة والمرجلة. لا يعرف توفير المال ولم يمتلك منه إلاّ الكفاف ولم يكن مطلبه، ولم يتصل يوماً بإخوانه أو أبناءه ليطلب منهم أي شيء طوال حياته.
هو بِكر أبيه، وسُمِّيَ "غانم" على إسم عم والده العَلم غانم بن محمد العابسي. إخوانه الرجال الخمسة يضعونه منذ شبابه في مكانة والدهم، طاعتهم له كانت مُطلقة وبقناعة نادرةً فتحسبهم أبناءه، تراهم من حوله يُصغُون إليه بأدب كبير وإحترام شديد حتى خلال أحاديث المزاح وذكريات المواقف فيما بينهم، يعتبرونه قائدهم ومعلمهم، لم أرى مثل هذه العلاقة الأخوية وهذا الإخلاص للأخ، كان رحمه الله حازماً وصلباً تجاه تربيتهم حين كانوا صغارا لكنهم متعلقين به إلى حد الحزن إذا غاب عنهم نهار العيد أو أي من مناسباتهم!، لم يسمع رحمه الله من أحدهم يوماً كلمة "لا" أو أي تردد في تنفيذ ما يوجههم به!، يحبونه لشخصه وحكمته ولدوره مع والدهم ولسمعته ولعلمهم أنه يحبهم ويقدرهم ويحترمهم. علاقتهم ببعضهم مضرب مثل!. في مرضه وعند رحيله كانوا إخوته هم الأكثر حُزناً وألماً من غيرهم لكنهم تمالكوا انفسهم رفقاً بنا. كل واحد منهم "أطال الله بإعمارهم" أصبح ولينا ووالدنا مكان أبينا. أنعم بهم وأكرم من رجال على قلب رجل واحد، ما أروعهم وما أوفاهم وأكرمهم مع أخيهم الكبير الراحل وما اكرمهم معنا منذ درجنا على الأرض.
والدي "رحمه الله"، رجلاً أمي. لكنه عبقرياً بتفكيره وعقله وحكمته وبعد نظره. رجلاً يعرف معنى أن يكون للدولة هيبة ولقيادتها إحترام وطاعة ووفاء. كل أقاربه ومعارفه وأسرته يعرفون عنه شدة إنتماءه لبلاده والدعاء لها ولقادتها في كل حين حتى قبل وفاته بسويعات وأنا على ذلك شهيد. شبَّ الوالد غانم بن عبدالله كبيراً، وشاخ قوياً، وزادته البساطة والحكمة جمال ومهابة. واجه الحياة ومتاعبها بصبر الرجال الأقوياء، حتى الموت واجهه بإيمان عميق وكأنه يستعد لرحلة أخرى مُردداً كلمات التوحيد و "اللهم أجعلني عندك من الصابرين"، وهذه ألجملة الأخيرة كان يرددها في أيامه الأخيرة. فاضت روحه لبارئها مطلع الفجر موحداً لله تعالى، مدركاً لكل شيء حوله حتى الموت الذي رآه وأشار اليه بيده!. رُحماك إلهي، ما أكرمك معه وما ألطفك به، حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بدأ جميلاً عزيزاً متماسكاً ومتعلقاً بخالقه.
غادر الوالد الكريم دنيانا بعد رحلته الطويلة والشاقة، وأورثنا صدق المواقف وجهاد المؤمن وعزيمة الرجال، ونرجوا الله أن نكون أوفياء لميراثه. أوصانا أبناءه بتقوى الله سبحانه وعزة النفس والإخلاص في العمل والصدقة ما أمكن. لن نبلغ مكانتك يا أبا عبدالله ولن نستطيع حمل صفاتك، نحن لا نشبهك لأنك كبيراً ونحن أقل منك بكثير، شرفتنا أنك والدنا ومربينا ومنحتنا إسمك الغانم. أعذرنا غفر الله لك لم نستطع إخفاء الحزن لفراقك وقد حاولنا الصبر كما أمر الله مع أن الألم اكبر من مقدرتنا. الحمد لله الذي جعلك راضٍ عن عائلتك وإخوانك وأخواتك وجيرانك صغيرهم والكبير. اللهم بكرمك ورحمتك اغفر وارحم عبدك غانم وتقبله وجميع موتى المسلمين، وأكرمنا رؤيته ومجاورته في جنات النعيم.
كتبه : عبدالله غانم القحطاني
غانم العابسي “رحمه الله” ذاك أبي
(0)(5)
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://alraynews.net/articles/6589079.htm
التعليقات 1
1 pings
د.فوزية القحطاني
10/04/2022 في 1:46 ص[3] رابط التعليق
رحمة الله تغشاه..دمعت عيناي وتذكرت والديً..رحمة الله عليهم جميعا.. تذكرت الجنة والنار والثواب والعقاب..كما تذكرت أن الله رحيما غفورا.. وإنه غنيا حميدا ..رحم الله والدك وجمعه بمن سبقه من ذويه والمسلمين .. وجعلهم على سرر متقابلين تعرف في وجوههم نظرة النعيم.. رحماك ربي وو الدينا أجمعين واسلافنا واخلافنا والمسلمين..
(0)
(0)