في نهاية عام ٢٠١٧ وأثناء رحلتي إلى المدينة المنورة وكانت عبارة عن رحلة دراسية .. وأثناء جلوسي في غرفتي الصغيرة.. قررت أن أنوّع قراءاتي لعدد كبير من الكتّاب..
وبدأت أقرأ للعرب وللغرب.. أقرأ بمنظورهم وبمفهومهم.. ومن ضمن العناوين التي أخترتها هي السعادة فقرأت ٣٦ مقال عن السعادة بأقلام عربية و٢٢ مقال عن السعادة بأقلام غربية.. كل كاتب نظر إلى السعادة من خلال عدسة نظارته الخاصة، ومن الزاوية التي خاض فيها تجربته فكانت نقطة بدايته في السعادة.
هُنا أضع بين أيديكم " أصحاب فواصل" الجميلين مقال للشيخ علي الطنطاوي وهو يحدثنا عن السعادة..
"يحمل الرجلان المتكافئان في القرية الحمل الواحد، فيشكو هذا ويتذمر ؛ فكأنه حمل حملين، ويضحك هذا ويغني ؛ فكأنه ما حمل شيئاً.
ويمر الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد، فيتشاءم هذا ، ويخاف ، ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه؛ فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة؛ فتسرع إليه ويسرع إليها.
ويُحكم على الرجلين بالموت؛ فيجزع هذا، ويفزع ؛ فيموت ألف مرة من قبل الممات ، ويملك ذلك أمره ويحكّم فكره ، فإذا لم تنجه من الموت حيلته، لم يقتله قبل الموت وهمه.
وهذا ( بسمارك) رجل الحديد والدم، وعبقريُّ الحرب والسلم، لم يكن يصبر على التدخين دقيقة واحدة، وكان لا يفتأ يُشغل الدّخّينة من الدّخّينة نهاره كله، فإذا افتقدها خل فكره، وساء تدبيره.
وكان يوماً في معركة، فنظر فلم يجد معه إلا دخّينة واحدة، لم يصل إلى غيرها، فأخرها إلى اللحظة التي يشتد عليه فيها الضيق، ويعظُم الهم، وبقي أسبوعياً كاملا من غير دخان، صابراً عنه أملاً بهذه الدّخّينة، فلما رأى ذلك ترك التدخين، واتصرف عنه؛ لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة.
وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخُضري، أصيب في أواخر عمره بتوهم أن في أمعائه ثعباناً، فراجع الأطباء، وسأل الحكماء؛ فكانوا يدارون الضحك حياءً منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود، ولكن لا تقطنها الثعابين، فلا يصدق، حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب، بصير بالنفسيات، قد سمع بقصته، فسقاه مسهلا وأدخله المستراح، وكان وضع له ثعباناً فلما رآه أشرق وجهه، ونشط جسمه وأحس بالعافية، ونزل يقفز قفزاً، وكان قد صعد متحاملاً على نفسه يلهث إعياءً، ويئن ويتوجع، ولم يمرض بعد ذلك أبداً.
ما شُفي الشيخ لأن ثعباناً كان في بطنه ونزل، بل لأن ثعباناً كان في رأسه وطار! لأن أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة، وإن في النفس الإنسانية لقوى إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب.
تنام هذه القوى، فيوقظها الخوف أو الفرح؛ ألم يتفق لواحد منكم، أن أصبح مريضاً، خامل الجسد، واهي العزم لا يستطيع أن يتقلب من جنب إلى جنب، فرأى حية تقبل عليه، ولم يجد من يدفعُها عنه، فوثب من الفراش وثباً، كأنه لم يكن المريض الواهن الجسم؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغبٌ لاغب، قد هدّه الجوع والتعب، لا يبتغي إلا كرسياً يطرح فسه عليه، فوجد برقية من حبيب له أنه قادم الساعة من سفره، أو كتاباً مستعجلاً من وزير يدعوه إليه؛ ليرقي درجته ، فأحس الخفة والشبع،، وعدا عدواً إلى المحطة، أو إلى مقر الوزير؟
هذه القوى هي منبع السعادة تتفجر منها كما يتفجرالماء من الصخر نقياً عذباً، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة، والسواقي العكرة! "
التعليقات 8
8 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
حسان آل منيع
22/10/2019 في 11:02 ص[3] رابط التعليق
جميل جداً، وطرح أكثر من رائع وفقك الله وسددَّك .
أضف إلى ذلك أخي عبدالحكيم ، أن السعادة الحقيقية التي لا يجبُ أن نبتعد عنها، هيا معرفة الله فمن عرف الله عرف معنى السعادة وعدَ عاقلاً وسعيداً ، أنا والله لا أُبالغ ولا من عادتي المبالغة ، إن لم تقلُ ليس على وجهِ الأرض من هو أسعدُ مني إلا أن يكون أتقى مني عندك مُشكلة .. | أسعدكَ الله بتباريح الفرحة وملىء قلبكَ طمأنية و نوراً وسعادة .. مقال جميل كـجمالِ صاحِبه وقفك الله ..
(0)
(2)
خالد رفيع
22/10/2019 في 1:47 م[3] رابط التعليق
مقال جدا رائع اتمنى لك التوفيق والسداد ، زادك الله علما ونفعا?
(0)
(0)
د.يسرى
23/10/2019 في 12:51 ص[3] رابط التعليق
يعجبني خوضك في تجارب جديدة مرة بعد مرة
هذا الحماس المذخور ينتظر الانطلاق ويبشر بمستقبل لامع
وفقك الله يابني ونفع بك الأمة
هذا التعليق من الأستاذه الفاضله نائله الهاشمي للكاتب عبدالحكيم ناعس
(0)
(1)
د.يسرى
23/10/2019 في 12:55 ص[3] رابط التعليق
كثير من السعاده في بحر تجاربك ومقالاتك وهمتك
نفع الله بك الإسلام والمسلمين
(0)
(0)
Dr.yumna
23/10/2019 في 11:18 ص[3] رابط التعليق
فعلا السعاده موطنها الأصلي يكمن في دواخلنا متى مااردنا ان نكون سعداء فسوف نحصل على ذلك ..
(المَالُ والبَنُون زينةُ الحَيَاةِ الدنيا) ولم يقل انها سعادة الحياة الدنيا لانها من الكماليات فالزينه كماليات وليس الأساس ، لان الأساس في داخلنا ينبع من نفوسنا فسعادة كل إنسان تنبع من داخله وأما ماتبقى من المال والولد والسفر وغيرها هي كماليات تزيد من السعاده ..
كم سعيدا مفعماً بالحياة وان حاصرتك الظروف بانما هو عمرٌ واحد ستعيشه ..
(0)
(0)
فراج الاسمري
09/11/2019 في 6:37 ص[3] رابط التعليق
وفقك الله ياعبدالحكيم
(0)
(0)
عبد الحكيم ناعس
06/01/2020 في 2:41 م[3] رابط التعليق
شكر الله لكم .. كلام عبارة عن جبر للخاطر .. كتب الله أجركم ويااارب نوصل لأعلى مراحل السعادة في حياتنا وآخرتنا .. شاكر ومقدر لكم
(0)
(0)
خالد آل راعي
07/01/2020 في 2:38 ص[3] رابط التعليق
مقال رائع من شخص رائع ؛ وفقك الله وسدد خطاك
وضيف الى ذلك أن السعادة الحقيقة والسعادة العامرة هي مع القرآن يقول الشاعر:
تمضي الحياة وأنت تطلب أنسها .. والأنسُ كل الأنسِ في القرآنِ
وقال تعالى 🙁 ما انزل عليك القرآن لتشقى ) فيه بيان وتوجيه أن من صاحب القرآن لن يضل ولن يشقى بل ستغامره السعادة اذا عاش وتدبر هذا القرآن وأعطي له من وقته الكبير لأنه كتاب عزيز .. شكراً لك ولمقالك الرائع وآسف على الإطالة..?
(0)
(0)