هل بقي في هذا الزمن من لا يزال يتفرس الملامح العُمَرية في المواقف والأحداث والأشخاص؟ أو حتى يستوقفه ما يشبهها؟ ثم إذا ظفر بشيء أمسك به وأجاد التعبير؟ هل ما زال فينا من يستحضر عمر؟ ويحلم أن يرى ولو شبحا من بعيد في موقف عابر ما يشبهه؟
كان ولا يزال موقف سمو أمير عسير مع ذات الهمة المتلعثمة، يستوقفني وتستوقفني فيه أشياء تثير ذكرى الفاروق.. وإنسانية الفاروق وحزم الفاروق..
لم يمهلني المشهد لأتساءل: كيف لمتلعثمة .. أن تلم شتات معاناتها قبل شتات حروفها وتقف بكل ثقة وشجاعة لتتحدث في محفل أمام أمير؟
فقد سبق الجواب التاريخي المشهد: وهل يمكن لامرأة أن تتلعثم أمام الفاروق أو تتردد أو تعجز .. وإذا تلعثمت ألا يكفي أنه الفاروق وأن حسه الإنساني يصل إلى كلماتها ويبلغ آخر معاناتها وإن كانت خرساء لا تبين؟
هكذا بدا سمو أمير عسير تركي بن طلال، وهو يستمع إلى ذات الهمة .. ولم يكن استماعا فقط، كان إصغاء عميقا يرافقه من الذوق واللطف والعمق الإنساني ويرافقه من الكلمة والنظرة وردة الفعل البليغة والسريعة: ما يجعل المشاهد يقف أمام هذه الشخصية وقفة إعجاب واحترام وإشادة يشعر المتفرس أنها حتمٌ عليه.
المتلعثمة عند مثل هذا الأمير فصيحة، والخرساء مُبينة .. هكذا يقول المشهد .. يكفي فقط أن تكون صاحب قضية وإن لم تكن صاحب صوت..
ويقول : المتلعثم عندي – في حق - فصيحٌ وصوته مسموع، والفصيح عندي - في غير حق- لا صوت له.
ويردف – قاطعا كل ما يحول بينه وبين الصوت- : وله مع الصوت المسموع المكان الأسمى، والقرب الذي لا يحول دونه حائل بيننا وبين متلعثم.
أختم تأملي للمشهد، فأقول: هل كل ما قرأته في هذا الموقف صحيح أم أنني بالغت في استحضار عمر – رضي الله عنه – وهو يتفقد أحوال النساء – من رعيته –على وجه الخصوص، بل ويجادلنه ويظفرن بالحديث، بل وحتى البهائم، ويقول: "والله لو أن بغلة تعثرت بأرض العراق لخشيت أن الله سائلني عنها". فما البغلة المتعثرة عنده بأعز من امرأة متلعثمة.. في كلماتها أو خطواتها .. أو أي أمر يتصل بإنسانيتها.
أرجو ألا أكون بالغت في قراءة المشهد الذي أثلج إنسانيتي .. ومازال يثلجُها وسيبقى يثلجُها .. فقد كانت حقا متلعثمة.. ولكن طلاقة موقف الأمير السريعة والقاطعة أغنتها عن كل حديث.. هي ليست بحاجة لنطق كلمة في وجود مثل هذا الأمير الإنسان.
شكرا سمو أمير عسير .. فبمثلكم تبنى الأوطان، ويبتهج (الإنسان) الحي في داخل كل من لا يزال متشبثًا منا بإنسانيته.. ليقف وقفة إشادة واحترام وتقدير، تقف كلماتي عاجزة عن حملها أمام طلاقة موقفكم.
أ. رفعة العمري
أكاديمية بجامعة طيبة