عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه.
في الوادي العريق نشأنا وسط خمائل زراعية ساحرة تحيط بها شعاب برية نظيفة تكسوها غابات الأشجار وطبقات من الشجيرات والنباتات. وكانت نفوسنا تحمل آمال وطموحات لا حدود لها. وقبل ذلك ولدتنا امهاتنا في غرف مظلمة ارضها التراب وسقفها جريد قاتم السواد ولا يوجد بها إلا وتد خشبي بأحد جدرانها يتدلى منه حبل من الجلد يسمى النّسعة تمسك به الأم حين المخاض فترى الموت لنرى نحن النور.
فتحنا اعيننا بوعي محدود لنرى الماء والزرع والغنم اكثر من رؤيتنا لأهلنا، واقتنعنا حينها ان الإهتمام بنا أقل من الإهتمام بالأنعام حتى في التغذية، وربما لأنها هي مصدر الغذاء والطاقة وفلاحة الأرض.
اكلنا التراب بلا وعي فاصابتنا امراض المعدة والأمعاء. وخوفاً علينا من السقوط والموت في الآبار او الضياع ربطونا بحبال من قماش لنتحرك في دائرة نصف قطرها متر تقريبا، والصراخ هو الحيلة الوحيدة حتى الإغماء أو الإعياء ثم النوم. تبدأ الخطوات فالمشي فالإدراك المعقول، يلسعنا البرد الشديد لرداءة الأغطية خلال الليل فيزيده غرق المكان بشاعة وألم فالثوب هو الوحيد المتوفر وسيبقى عليه الأثر. ثم يجيء القيض فتهاجمنا اسراب البعوض ليلاً وتخرجنا الى السطوح من بعد صلاة المغرب ولكن كيف ننام ولسعاته متواصلة وطنينه يسبب الأرق.
أُخذنا الى المدارس فوجدنا العصا لمن عصا، ورجعنا عصرا للأسرة فوجدنا العصا جاهزة لظهورنا عند الحاجة وللهش بها على الغنم، إضافة لسقاية الزروع وتنظيف ارضها.
اللعب محدود ولا مجال للترفيه ولا وجود للفراغ ولا يتوفر صداقات وثيقة إلاَّ مع الماعز والضأن والديك البلدي ذو الألوان، ومع النخلة والمسحاة ومع الشجيرات والبيدر.
كرهنا المدارس لأسباب مختلفة فتعلمنا القراءة بصعوبة والحساب بمشقة ولازمنا الضعف الإملائي ورداءة الإنشاء، ونجتاز الصفوف بنجاح لسنتين أو ثلاث ثم نخفق سنة، وأحياناً نرسب ونعيد الصف الواحد 3 سنوات بسبب الحساب أو المطالعة، فيغادر اغلبنا هروبا بلا عودة ويبقى بعضنا ينتظر الفرصة المواتية للهرب، وجميعنا تائهين ومحتارين لا ندري لماذا نتعلم؟.
قُتلت فينا روح الطفولة المبكرة فلا شيء كان يحسسنا أننا اطفال في سن الثالثة ثم الخامسة وحتى العاشرة، فنحن العمال والخدم والقهوجية وأحياناً الحراس ولا قيمة لنا مقارنة ببعض المخلوقات التي تعاني مثلنا.
قضينا من الأعمار 18 ربيعاً ونحن منصتين نستمع فقط ولا نتكلم إلا مع اقراننا إن حصل وقليل ذلك، فالكبار هم اسياد المجالس، وعلى الموائد هم من يجب أن يأكل أولاً وأخيراً، وننعم نحن بعدهم بمسح الصحون ومص العظام وتليين كفوفنا بالخيش الندي بالدسم والماء بعد ان مسح به الكبار للتو ايديهم ولحاهم فلعل ذلك يخفف من جفاف الكفين التي اصابها التشقق خاصة ظهرها الداكن، وكان السعيد من يحظى بمهمة الوقوف على رؤوس الكبار وهو يحمل على راحة يده الماء لسقياهم والإستمتاع بمنظر شد اللحم الأسود المتماسك كالمطاط بين اياديهم وهذا شرف يكفي عن الأكل.
تأرجحنا صغارا بين الصيام علناً والإفطار سراً فلا نعلم هل نحن مستوفين للشروط ام اننا يجب ان نصوم باي حال، لكن رمضان كان الشهر الوحيد الذي نحبه ونشعر انه يراعينا ويطعمنا بكرم بل ويحمينا من تجاوزات وارهاق العمل والمدرسة والمنزل. لأنه رمضان المبارك.
بقيت جذوة الأمل والطموح في نفوسنا جميعا تزداد وتكبر ونحلم بغدٍ أفضل، وجميعنا يهيم بالوادي طريب بمجراه الرئيس وروافده الكثيرة وضفتيه وواحاتها الخضراء والجميع كذلك يصر عل العودة اليه قريبا والاستقرار به، لكن ما كل مايتمنى المرء يدركه، فالأمس كانت احلامه وردية واليوم حقيقته تختلف وهو أن لا شيء يمكنك تحقيقه حتى وإن وصلت اليه. فهل اخطأنا التقدير أم هذه هي الحياة؟. وفي هذا السياق حاولت أن أناقش الغالي ابوي لماذا حرضتنا منذ الصغر وحتى الآن بهذه الجملة او البيت: يا هل الجيش مادام به شدَّه ... فاسروا الليل واطراف الأيامي (ليامي).؟(الجيش هنا الإبل)، لم يجاوب بل أخذ يكررها كلما هاتفناه او جلسنا معه حتى الآن.. اتعبتنا يا ابي..! فنحن لسنا أنت ولسنا بحجم صمودك، دعنا نرتاح قليلاً، ولا تألبنا بقوة عباراتك التي تهزمنا بها وأنت لا تقرأ وكأنك تعرف ضعفنا امام حكمتك وجهلنا امام بعد نظرك، لكن إلى متى يا ابي وأنت لا تسمح لنا أن نرتاح بقربك ولو لعام واحد؟.. إذا انت لم تتعب فنحن تعبنا ليس من الحياة فهي عناء وكبد ولكن من معرفتنا بأنك لن تتغير ولن تزيدك الأيام إلا تعلقاً وتشبثاً بمكانك وبمربعك الذي بقيت به منذ ميلادك.. لكن مافائدة المكان لذي نحن فيه بدونك.
أحبب ما شئت فإنك مفارقه، ولقد فارقنا ويبدو للأبد ما كنا نحبه ولا نزال رغم تغير كل شيء إلا ملامح الجبال عن بعد وما ان تقترب منها حتى تراها قد تغيرت هي الأخرى وكأنها تقول لا اعرفكم ابتعدوا عني.
هي معاناة قد لا يصدقها بعض الشباب ولهم الحكم، ولكنها تعتبر لا شيء مع معاناة اباءنا وامهاتنا من قبلنا مع قساوة الحياة وضيق ذات اليد ومرارة الفقر، وهذا ماجعلهم يعرفون معنى وأهمية رغد العيش ونعمة بسط الأمن.
صحيح اننا تعبنا وتألمنا وربما ظُلمنا لكن معاناة والدينا ومن سبقونا كانت أشد وأنكى، فجزاهم الله خير الجزاء ورزقنا بهم ومعهم جنات النعيم.
هل ماذكرته تبرم أو استياء؟ أبداً، وانا فخور بكل الماضي اياً كان.. لكن هي اشارة الى ايام خلت، ومواقف بَنَت وهَدمت، وظروف وتربية قاسية صنعت الكثير وصفعت الجميع.
شكرا لكل المحترمين الذين علقوا على مقالات حديث السحر وصوت العاصفة. لهم التحية جميعا. وشكراً لمن نصح وأشار وأنتقد. واستودعكم الله بنهاية سحر رمضان لعام 1438ه، واستوصيكم خيرا بما بعد السحر حين ينادى للفلاح وتكرار النداء وطلب المجيئ الى مكان مُهاب تحفه الملائكة. وهل هناك اروع من الفجر.
الله يعيد عيدكم ويزيد عديدكم.
التعليقات 6
6 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
محمد الجـــــــابري
23/06/2017 في 2:24 ص[3] رابط التعليق
أي نعم هكذا كانت معاناة الام وصغارها لكنها كانت على قساوتها فيها تراحم وموده وكان الاوائل فعلا طيبين ووالدكم رعاه الله منهم..كان الميزب للرضيع محبس اجباري بالاضافه للكوفال الممسوس ومع هذا كان جميلا ومفيدا حينها وعند بلوغ الذكور السن الخامس عشر يواجهون “الختان الرهيب” وجميعهم ينزف دمه ويركضون به الكبار وهو يمتح نفسه وينسى الالم ليساير اقرانه وسابقوه ..الله يهبلك حظ ويبارك فيك اسعدتنا في اسحار رمضان وفي غيره ..اشكرك وكل عام وانت بخر وعيدك سعيد ..
تحياتي
(0)
(0)
سفر بن سيف آل عادي
23/06/2017 في 3:26 ص[3] رابط التعليق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
صدرك رحب
ومقالاتك جميله
ووصيتك الاجمل
بارك الله فيك ابامنصور وكل عام وانت ومن تحب بخير وصحه وسعاده
عسسسسسسسسسسسسسساك من عواده
(0)
(0)
مساعد آل غراب
23/06/2017 في 5:34 ص[3] رابط التعليق
ما أجملك. . وما أجمل مقالاتك. .
ألِفت الماضي بمعاناته وعشقت الحاضر بتغيراته المضطردة ..
كلام أعاد الذاكرة للخلف أربعين عاما وقد تزيد لتذكرنا من نحن (جميعا) وكيف كنا (جميعا) دون وجود فارق مادي أو معنوي أوغيرهما مما صار في الوقت الحاضر إلى حد التشتت والتمزق الأسري .
لا فض فوك.. وعاد عيدك وأنت تكتب كل مفيد..
(0)
(0)
مسفر قضعان
23/06/2017 في 10:56 ص[3] رابط التعليق
ذكرتنا بالماضي عندما بدأنا الدراسه بإبتدائيه حنين بطريب سنه ١٣٨٨ وعلى الرغم من التعب والمشقه وشظف العيش ولكنها كانت ايام جميله وكان المجتمع نظيف وكان اهل القريه يعيشون كأسره واحده ولعلك تتذكر اخي ابا منصور كم كنا نعاني سويا من عدم توفر وسائل النقل من والى المدرسه ولكن لكل زمن دولته ورجاله .
(0)
(0)
عبدالله القحطاني
23/06/2017 في 7:46 م[3] رابط التعليق
وصف دقيق وممتع ويعتبر مختصر شديد ليوميات جيل السبعينات والثمانينات وبداية التسعينات ورسالة للجيل الحالي هذه كانت حياتنا وكمثال بسيط للفارق بين جيلين ،،، سابقا وكما ذكر الكاتب القدير ينام احدنا في الصيف في مكان مكشوف تنهشه البعوض في فراش رث على الارض ومع تلك المعاناة يفكر في يوم الغد اما العمل في المزرعه او رعي الاغنام او البقاء داخل المنزل وفي حدود القرية الصغيره وان ذهب سيعود بعد جهد وعناء ليستقبل بتحقيق من الوالدين ماذا فعلت وكيف ولماذا بينما الجيل الحالي ينام في فراش وثير وتحت نسمات التكييف البارد وهو يتصفح في هاتفه الذكي وغدا سيذهب الى اقصى المدينه او المنطقه في سيارة حديثه للتسليه او لقضاء غرض بسيط ويعود بعد تناول القهوه الحديثه في مقهى فاخر .. هنا الفرق .. تتوالا ابداعات الكاتب في توضيح الارث التاريخي والتراثي والاقتصادي والاجتماعي بما يجعلنا نتفاعل تلقائيا ع تلك الذكريات الممتعه والايام الخوالي ،،، رسالة لكل أب ولكل ام من ذلك الجيل ان يطبعوا هذا المقال الجميل واعطوه ابنائكم وقولوا هذه حياتنا بإختصار لتعرفوا أنكم في نعمه وحياة مرفهه ..
(0)
(0)
فهد
24/06/2017 في 3:01 ص[3] رابط التعليق
وفقك الله ابو منصور على هذا المقال الذي اعتبره درس من الماضي في قالب جميل جدا ويصل القلوب بسرعه الله يجزي والدينا عنا كل خير
والله يعيد عيدك وجميع المسلمين
(0)
(0)