نجد لكل قبيلة صندوقها الخاص المسمى في عرفنا ب(الحضن)، وهذه الصناديق في مجملها تلزم نظاماً موحداً التزمت به أغلبية القبائل، لاسيما في معايير وأسس هذه الصناديق، وإن اختلف نظامها في زوايا ضيقة جدًا إلا أن الركيزة الأساسية لهذه الصناديق تقتصر على الدم والحوادث وما شابه ذلك، وعلى أفراد القبيلة الالتزام التام ببنودها وضوابطها بكل ما فيها من إيجايبات وسلبيات.
وكما نعلم أن هذه الصناديق التأمينية لم تُحدَّث ولم تتغير أنظمتها منذ تأسيسها، وكأنها فُرضت بنص قرآني لا يجوز لنا المساس بها، ولو تدبرنا وخرجنا عن الأطر التي رُسّخت في عقولنا، والصور النمطية التي رُسمت في أذهاننا لوجدناها -ببساطة- مجرد اجتهادات بشرية، وسنن كانت من متطلبات عصر أجدادنا، وكان لا بد منها في تلك الحقبة الزمنية.
وهذا لا يعني عدم أهمية هذه الركيزة، بل أنها تعد من الركائز المحمودة في كثير من جوانبها، ولكن يجب علينا أن نضع حدوداً وضوابطاً ومعاييراً تحد من بعض التصرفات الطائشة، والسلوكيات الشاذة، ويجب علينا أن نُحدث في أصلها، ونرفض بعض المبادئ والأسس المشينة التي قد تكون دافعاً ومشجعاً للتمادي والإصرار على الخطأ حتى في أتفه الأمور.
فالدم والقتل والإجرام والخلافات الكبيرة والصغيرة هي المحرك الأساسي لبنود الصندوق
وكما نعلم أن المضار هنا أبلغ من المنافع، ولعل أبرز سلبياتها أنها تعد حافزاً وتشيجعاً لأبناء القبيلة بالخوض في المشكلات بكل جرأة، فقد أصبح الحضن هو السند لجراءة الشاب على الفعل المشين والإجرام بكل طمأنينة أو بالأصح أصبح هذا الصندق داعماً أساسياً لمتهوري القبيلة، فهو يعلم جيداً أن كل ما يقدم عليه ويشرع في فعله أن صندوقه يتحمله، وذلك يُثقل كاهل الضعيف، والفقير المحتاج ويلزمه بالدفع رغماً عنه، ومن تمنّع أو رفض يسمى بالناقص وقد لا يحظى بمكانة مرموقة بين ذويه وأهله.
-فمن وجهة نظري- أن يلتفت أهل العلم وأهل الرأي والدراية في كل قبيلة لهذه القضية وأن تُحدث هذه الصناديق بما يتوافق مع معطيات ومتطلبات عصرنا - على سبيل المثال لا الحصر- :
1- وضع ضوابط ومعايير للدم والجرائم وأن يُنظر لماهية القضية، وأسبابها ومن ثم تُرد لكتاب الله وسنة رسوله ﷺ ولأنظمة وسنن الدولة في مثل هذه القضايا، فما وافق عقيدتنا ونظام دولتنا شرعنا فيه، وما خالفه رفضناه، فمن خلال معرفتنا لدوافع وأسباب هذه القضايا نستطيع أن نعالج و نتلافى الوقوع مستقبلاً في مثل هذه المشكلات.
2- استحداث بنود تشمل الفقير والعاجز والمريض، لاسيّما الأرملة التي تعيل أطفالاً حتى تستقيم أعوادهم.
3- تشكل لجنة من كل أسرة، ومن ثقات القبيلة لتلمس احتاجات القبيلة، وتدرس حالاتهم الصحية والمعيشية وتقدم كل فترة تقاريراً مفصّلةً ومثبتة بالأدلة والبراهين لهذه الحالات.
4- تشكل لجنة تطوعية، أو تمنح مكآفات رمزية تنظم زكاة تجار القبيلة، وتوزعها كمراتبات شهرية لكل محتاج، فالأقربون أولى بالمعروف، فلو لم يطبق سوى هذا البند لأغنانا عن كل البنود، وربما زكاة شخص أو شخصين فقط تلبي كل احتياجات فقراء القبيلة.
5- الشباب العاطلون عن العمل، يُبحث عن أسباب تعطلهم، وأن يقدموا ممبررات مقنعة لتعطلهم، ومن ثم يمنح كل فرد حافزاً شهرياً حتى يلتحق بوظيفة، شرطية ألّا يكون هذا الحافز معيناً له على عدم البحث والتنقيب عن العمل.
6- عقد مجالس اجتماع كل عام يقدم من خلالها كل مسؤول عن ما ذكرته آنفا تقريراً مفصلاً عن إنجازاته وما قام به، ليتلافى أهل العرف والمؤثرين الجوانب الرديئة - إن وجدت - ومن ثم تقويمها وتعديلها.
ربما قد يتبادر إلى ذهن الكثير أن هذه البنود مُثقلِة وصعبة المنال، فلو تدبرنا وتفكرنا قليلاً لعلمنا يقيناً أن حقيقتها ليست إلا صغيرة من صغائر ما نقوم به من تفاهات أعمالنا الحياتية
من حيث الجهد ، ووجدناها توفيراً في كثير من الأحيان من حيث المادة، فمن حيث الجهد والوقت لا يستغرق ذلك بضعة أيام في العام، ومن حيث المادة لا تشكل نسبة 1٪ من دخل متوسطي الدخل.
أجزم يقينا بعد -مشيئة الله - أنها لو طبقت لاستقام حالنا ولجنينا الكثير من ثمار المحبة والألفة والتعاون، بل سنجد المبادرين والمتطوعين والمفكرين، ولأصبحت القبيلة كالأسرة الواحدة، نبتعد عن الذاتية في ما من شأنه أن يرفع سقف المحبة والألفة، ونبتعد عن التعصب المذموم الذي لن يجعلنا نتقدم ولن نلحق بالمجتماعات الناضجة.
كتبه:
د. سلطان سعيد أبودبيل
أستاذ مساعد- جامعة الأمير سلطان