كان الناس فيما مضى يصدقون أكثر الذي يرونه في وسائل الإعلام المرئية المحدودة، وبعضاً مما يسمعونه في الإذاعات التي كانت آنذاك الأوسع انتشاراً، فانتصرنا في حرب الأيام الستة، أو هكذا قيل لنا في الإذاعات، فصدّق الناس أن جيوشنا العربية الباسلة كانت على مقربة من (تل أبيب)، وباتوا يحتضنون أجهزة المذياع في لياليهم الحالكة، يستضيئون بنور الفوانيس المتثائبة، ويستمعون إلى البيانات العسكرية الصاخبة، التي تبشر بالانتصارات المتتالية في ميادين الحرب وجبهاتها المتعددة.
فإذا النور نذيرٌ طالعٌ
وإذا الفجر مُطلٌّ كالحريق
وإذا الدنيا كما نعرفها
وإذا المأساة في كل طريق
(مع الاعتذار للشاعر إبراهيم ناجي - رحمه الله)
أما الآن فقد أصبح الناس أكثر إدراكاً للعبة الإعلام وحبائله، ومعرفة تقنياته ووسائله.
هذه مقدمة مطولة كطول كذبة الإعلام السوري وسماجته، حين أظهر حاويات بلاستيكية مطبوعاً عليها بشكل رديء عبارة (صنع في السعودية)، ويدعي إعلام النظام السوري أن تلك الحاويات بها مواد كيماوية لغرض استخدامها في الحرب من قِبل المعارضة، ثم لا تطول بنا الأيام وإذا بالنظام في سوريا يفتح مستودعاته الكيماوية على مصراعيها للمفتشين الدوليين، وإذا بالحاويات المشتملة على الكيماوي هي نفس تلك التي ادعى أنها مرسلة من السعودية للمعارضة، فاستلهمت قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور.."، وتذكرت كيف كان آباؤنا يرددون عبارة "إن حبل الكذب قصير".
واللافت للنظر أن المفتشين الدوليين عن المخزون الكيماوي في سوريا ذكروا أن بعضاً من مخازن الأسلحة الكيماوية تقع ضمن المناطق التي يسيطر عليها الجيش الحرّ والجماعات المسلحة التي تقاتل جيش الأسد؛ ما يعني أن المعارضة ليست في حاجة لمثل هذا السلاح المحرم أن يأتيها من خارج سوريا لو أرادت استخدامه، كما أنها لم تستخدمه رغم وجوده ضمن المناطق التي تسيطر عليها، فالضحايا في ريف دمشق وغيرها لم يكونوا من جنود الأسد وشبيحته، وإنما كانوا من الأطفال والنساء وبعض أفراد الجيش الحرّ.
إن كذب إعلام النظام السوري ومن يؤازره شبيه بكذب الإعلام الرسمي لدول المواجهة أيام النكبة والنكسة والوكسة، ومثيلٌ للإعلام الليبي أثناء الثورة ضد معمر القذافي؛ إذ أظهر إعلام القذافي أسلحة متطورة مطبوعاً عليها بالعبرية صنع في إسرائيل، فكان ذلك مثار السخرية والاستهزاء.
كما أن الإعلام الكاذب، وإن وافق هوى بعض المرجفين، أو تأثر به فئامٌ من البسطاء الساذجين، تأثيره يبقى محدوداً؛ لأن تناقضه يظلُّ بيِّنا، وعواره لا يلبث أن يكون واضحاً، فقد قال أهل الأمثال "إذا كنت كذوباً فكن ذكوراً"؛ لذا رأى المتابعون لإعلام النظام السوري كيف يأكل بعضه بعضاً، من خلال تناقضاته، وتباين معلوماته.
لكن المتلقي الآن ليس هو ذاك بالأمس؛ فقد تعلم الناس من تجاربهم السابقة أن ليس كل ما يرونه أو يسمعونه هو الحقيقة، والأيام كفيلة بأن تشرق شمس حقيقتها على ظلام الكاذبين، فتبدد زورهم، وتمحو بهتانهم.. وصدق الشاعر حين قال:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأنباء من لم تزوّدِ
ويأتيك بالأخبار من لم تبعْ لهُ
بتاتاً ولم تضربْ لهُ وقت موعدِ