يعمل "الأب" ولا يكلّ، يواصل ليله بنهاره، يبذل غاية جهده، يضحي براحته ومتعته، يأخذ العمل من صحته وسكينته.. كل ذلك؛ حتى يوفر لأولاده معيشة كريمة، فيوطئ لهم كتفه ليصعدوا عليه، ويفرش لهم ظهره ليحملهم عليه... فأولاده يكبرون ويزدادون قوة، ووالدهم أو أمهم يزدادون ضعفا، إذ منحوا ما بهم من قوة وصحة لأجل أولادهم.
هذه الصورة، أستحضرها باستمرار، حين أرى المتقاعدين، الذين أفنوا حياتهم في خدمة مؤسستهم، قضوا زهرة حياتهم في رفعتها، أمضوا شبابهم في ازدهارها... وشاخوا لتبقى مؤسستهم فتية شابة، يسقمون؛ حتى تبقى مؤسستهم في حيوتيها ونشاطها... ولكن ذلك النشاط والحوية والوهج آن له أن يخفت ويضعف بعد حين، فيتقاعد الموظف، تاركا المؤسسة بأحسن ما تكون ليستلمها آخرون..
إن "المتقاعدين" بحاجة إلى لمسة وفاء مستمرة، من مؤسستهم، يشعرون خلالها أن جهودهم لم تضع سدى، وأن مؤسستهم تقدر لهم ما بذلوه من جهدهم ووقتهم من أجل نموها وتطويرها.
كانت جامعة الملك سعود سباقة في "مأسسة" الوفاء والتقدير والعرفان للمتقاعدين من أعضاء هيئة التدريس والموظفين، من خلال إنشاء "وحدة المتقاعدين (انتماء)"؛ تحقيقا للتواصل بين الجامعة والمتقاعدين، واستمرارا للاستفادة من خبراتهم، وتمكينهم من الإفادة من خدمات مختلفة كانت الجامعة تقدمها لهم، وتقديرا لجهودهم المبذولة خلال مسيرتهم..
إن هذه المبادرة جديرة بالإشادة، ومن المهم أن تتبلور في خطوات عملية، وأن تكون الوحدة ذات مكانة خاصة في الجامعة؛ ففئة المتقاعدين تعد الفئة الأضعف في المنتمين إلى الجامعة، والتقييم الحقيقي للإنسان إنما يظهر من خلال تعامله مع الفئات التي لا يستفيد منها بشكل مباشر، أو يشعر أنه لم يعد بحاجة إليها... فالمتقاعدون جزء من الجامعة.. ولعلنا نشهد تفعيلا أكبر للبنود المنصوص عليها في الوحدة، ومن ذلك الاحتفالات السنوية، ولا سيما أن الاحتفالات عن بعد يسرت كثيرا من العقبات، وأزالت العديد من الحواجز، ووفرت كثيرا من التكاليف...
ومما يستحق ذكره في هذا المقام، أن "عن بعد" يجعل كافة العاملين المتقاعدين، أو الذين انتهى تعاقدهم من الجامعة، حتى من غير السعوديين، لهم الأحقية في استمرار الانتماء إلى الجامعة.. وحضورهم لأي احتفالات أو أنشطة "عن بعد" أصبح يسيرا وغير مكلف...
لقد قضى المتقاعدون أجمل حياتهم داخل الجامعة، وتركوا أجمل ذكرياتهم، كانت الجامعة كل همهم وتفكيرهم... كانوا حينذاك أبناء وبنات لها.. ولكن بعد تقاعدهم أصبحوا آباء وأمهات لها، بحاجة إلى أن توليهم الجامعة الاهتمام والتقدير والعرفان المستمر.