في يوم تأسيس الدولة السعودية الذي يوافق الثاني والعشرين من فبراير يستذكر السعوديون تاريخاً فريداً من تأسيس فكر الدولة ودولة الفكر التي تعد امتداداً لحضارة العرب المسلمين منذ عهد النبوة رغم ما اعترى بلادهم وأهلها من عواصف سياسية وأمنية واقتصادية قطعت مسيرة البناء الحضاري لعقود من الزمن بل ولقرون في الجزيرة العربية قبل ظهور الإمام محمد بن سعود عام ١١٣٩هـ/١٧٢٧م وتأسيس الدولة السعودية الأولى وعاصمتها الدرعية في وسط الجزيرة العربية. فماذا يعني هذا التأسيس وما مرتكزاته، وماذا أضافت الدولة السعودية للحضارة العربية والإسلامية، وهل ساهمت في أمن واستقرار المنطقة العربية ونموها، وكيف نقرأ مسيرة التوحيد التي انطلقت واستمرت لما يقرب من ثلاثة قرون ومستقبل هذه الوحدة الفريدة؟ ليس من السهل أن نختصر إجابات أسئلة عميقة كهذه في مقال كهذا، ولكن نستعرض سريعاً ملامح (معنى التأسيس) عند السعوديين من منظور فلسفي استراتيجي.
الدين الإسلامي المعتدل ركيزة
قامت الدولة السعودية على العقيدة الإسلامية كمرتكز لبناء الدولة والمجتمع الآمن والمستقر والمزدهر. ورغم ظروف متتابعة من الإهمال والجهل أو التجهيل أحياناً من قبل القوى التي كانت تسيطر على المنطقة قبل وأثناء تأسيس الدولة السعودية مثل الدولة العثمانية والاستعمار البريطاني في أطراف الجزيرة العربية، ورغم هجرة العلماء إلى دمشق وبغداد والقاهرة، إلا أن الدين الإسلامي كان ولا يزال وسيظل محط اهتمام الدولة السعودية وجميع مكوناتها الاجتماعية والثقافية بمراحلها الثلاث إيماناً منها بضرورة إقامة الدين الصحيح ونشره ودوره في تهذيب المجتمع وتعزيز الأخلاق وبناء الانسان وربط الحضارات. يقول الشيخ تقي الدين الهلالي: (الشعب السعودي والمملكة السعودية بقيادة ملكها الإمام المصلح جلالة الملك فيصل والأئمة السابقين من أسلافه رحمهم الله لا يزالوا يحكمون بشريعة الله، ويتخذون القرآن إماما والسنة سراجا، يضيئان لهم ظلمات الحياة الدنيا بانتشار الأمن على الأنفس والأموال والأعراض في بلادهم إلى حد لا يوجد له نظير في الدنيا). صحيفة المرسال، أكتوبر ٢٠٢٠م.
القيادة: كسب القلوب والعقول
مما يذكر عن الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى أنه اتصف بالحكمة مع الشجاعة، وهما خصلتان قل أن تجدهما في قائد واحد. كما عرف عنه العدل وإكرام المساكين واليتامى. وإذا كانت تعرّف القيادة بأنها (فن التأثير على الناس ليحققوا أهدافاً معينة) فإن القادة السعوديين الذين هم في الأصل من أبناء نفس المجتمع الذي حكموه، إنما حكموا البلاد وسادوا بما يحملونه من صفات ورثوها أو اكتسبوها من الآباء والأجداد وحملوها إلى محيطهم العربي وتأثر بهم حتى من عرفهم من الشرق والغرب. يقول الكاتب الأمريكي إدوار بكنج ١٩٣٥م: (إذا بحثنا عن يقظة الشعوب العربية وجب أن نبحث عن شخصية ابن سعود فهذا الرجل الذي ظهر في الجزيرة "مهبط الوحي" وأخذ ينشر دعوته بين العرب قد أثار في النفوس شيئاً من الحركة والنشاط، أدركت معهما الشعوب العربية أنها كانت في رقاد، وأن في وسعها أن تستيقظ وكل حركة تقوم في مصر وسوريا وفلسطين يجب أن نبحث فيها عن صوت ابن سعود، فصوته يدوي في آذان الجميع). عبدالرزاق البجالي، صحيفة سبق، سبتمبر ٢٠١٨م.
الأصالة العربية والرؤية الاستراتيجية
قبل استعادة الملك عبدالعزيز للرياض عام ١٣١٩هـ/١٩٠٢م وانطلاق مشروع توحيد البلاد وتسميتها (المملكة العربية السعودية) عام ١٣٥١هـ/١٩٣٢م، كانت قد سقطت الدولة السعودية الأولى عام ١٢٣٣هـ/١٨١٨م والثانية عام ١٣٠٩هـ/١٨٩١م نتيجة الحرب عليها من الداخل والخارج. ولأن السعوديين استمرار لحضارة قامت على بناء الفكر الإنساني والقيم الاجتماعية بعيداً عن الموارد أو الثروات الطبيعية التي لم يكتشفوها إلا في منتصف القرن العشرين، فقد أثبتوا أن انتماءهم للأرض والتاريخ والثقافة العربية أقوى من كل التحديات والأزمات التي تنوعت خلال ثلاثة قرون بين أزمات سياسية وثقافية وأمنية واجتماعية وبيئية واقتصادية. وبعد، فقمة جبل طويق التي ضرب بها الأمير محمد بن سلمان المثل على همة السعوديين كانت ولا تزال وستظل شاهداً على صمود السعوديين في وجه التحديات، بل والانطلاق إلى المستقبل وتصدير التقنيات النظيفة والابتكارات المفيدة للبشرية في مجالات العلوم الشرعية والطب والهندسة والطاقة والعلوم التطبيقية وخدمة المجتمعات الإنسانية ومكافحة الإرهاب ومكافحة الفساد وحوكمة الأعمال والمال وكل مفيد للإنسانية، كيف لا والسعودية تتبوأ مكانها ضمن مجموعة العشرين اليوم وتعمل على أن تكون ضمن العشر الأول في رؤيتها ٢٠٣٠ فضلاً عن مكانتها الروحية الرائدة والفريدة التي لا تتغير في قلب العالم العربي والإسلامي، ودورها المحوري في تحقيق الأمن الإقليمي والدولي والتعاون مع القوى والمنظمات الدولية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة كثالث دولة على قائمة دول العالم المانحة لدعم الأعمال الإغاثية والإنسانية.
اللواء الطيار الركن م/ عيسى بن جابر آل فايع
متخصص في الشؤون الاستراتيجية والأمن الدولي