حوكمة المنظمات نتاج للحوكمة الذاتية منذ خلق الله الكون وأوجد فيه الإنسان، والحياة تسير بنظام منقطع النظير {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
والآيات الكريمة تأتي معظمها في الحث على التفكر بهذا النظام الدقيق والمترابط ببعضه، وارتبطت حياة الإنسان بهذا النظام الكوني، فأصبح جزء من تعاملاته الحياتية، ومنذ بداية تكوين الحياة المشتركة لمجموعات من البشر، وجد الإنسان نفسه مضطراً الى اللجوء إلى نظام يحتكم إليه ، واضطر إلى إيجاد نظام لضبط الزمن ونظام للعمل ونظام للعلاقات ونظام للتعاملات و و ...الخ، ثم أصبحت هذه المجموعات أكبر في الموارد والرقعة الجغرافية وذات سيادات مستقلة، فظهرت عدة أنظمة تحكم الإنسان وتتعامل مع السيادات المستقلة الأخرى، ومن هنا بدأ التطور الإنساني في إيجاد النظم المختلفة.
ومع توسع هذه الأنظمة وتزايد الأمم أصبح من الصعب إحصاء كل شاردة وواردة من قبل الدولة، فأضحى هناك سوء في الإدارة، وهدر للمال العام، وتخبط في القرارات، وقصور في فهم الواقع، ونتيجة لهذه التداعيات اضطر الإنسان مرة أخرى إلى إيجاد أنظمة رقابية للضبط والمساءلة، وتكون لها جهات رقابية معنية بذلك الأمر.
وقد ظهر في العقد الماضي ما يسمى بالحوكمة في المنظمات، وهي امتداد لتلك الأنظمة التي ظهرت وتطورت مع الزمن، فهو يأتي بمعنى الحكم والحكم هنا بالمفهوم الواسع ليس هدفا في حد ذاته (أي الحكم من أجل الحكم) بقدر ما هو وسيلة لتحقيق غاية أسمى، تتمثل في رفاهية وأمن المجتمعات وإرساء أسس عدالة اجتماعية ترتقي بالفرد إلى مستوى الإنسانية التي تحترم بشرية وإنسانية الأفراد وتوفر شروط العيش الكريم لأفراد المجتمع دون إقصاء أو تهميش أو تمييز حسب العرق أو الاعتقاد أو القناعة.
ولكن لو نظرنا إلى كُنهِ الحوكمة، وسألنا انفسنا هل هي نظام ضبط ورقابة للنظم والمنظمات من خلال معايير محددة تقوم بها جهات معنية فقط؟ أم هي أعمق من ذلك بحيث يمكن أن تكون أسلوب حياة يمكن ممارستها؟
فعلى سبيل المثال لو أخذنا المعايير الثلاثة وطبقناها على الإنسان المسلم في حياته، هل يتقاطع ذلك مع مفهوم الحوكمة؟
نحن كمسلمين مكلفين وهذا التكليف يترتب عليه أمور عدة، أهمها القيام بما أوجب الله به، واجتناب ما نهى عنه، والالتزام بحفظ الضروريات الخمس، حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ العرض، وحفظ المال.
كما أن من صور الالتزام والامتثال ما يتم من عقود في النكاح والبيوع والديون والوثائق الرسمية والصكوك، والوصية، وو...الخ.
كما أن من صور معيار الالتزام والامتثال "صلة الرحم" في التواصل والاجتماعات وتلمس احتياجاتهم لما يترتب على ذلك من الجزاء والعقاب. كما يحرص المسلم على الالتزام بالأنظمة والمواثيق في الدولة التي يعيش أو يسكن فيها.
ولكل منّا هويته الخاصة نتشارك جميعاً في إبرازها وإظهارها للعلن، ومن يحاول أن يخفي هويته، فهو يضع نفسه موضع الشك والسؤال؟
ففي شكل الإنسان الخارجي يُعرف الشخص من لغته وأسمه وثقافته وماهي هويته، وعند التعمق معه أكثر نعرف عن أخلاقة ومبادئه وعقيدته ورؤيته للمستقبل، وما يود فعله وما لا يود فعله.
وتكون لدى الشخص إجابات للأسئلة الكبرى التي تمرر على فكر الإنسان، والغاية التي من أجلها وجد، ولأنه يحمل مشكاة الحقيقة فهو مطالب بالإفصاح عنها ونشرها للملأ، وحتى في الأمور الدنيوية لا يجب عليه كتمان ما منّ الله عليه من العلم والمعرفة، ولهذا لا يمكن ان يحتكر الإنسان المسلم نشر العلم والمعرفة.
(وعن مالِه من أين اكتسَبه وفيمَ أنفقَه) قاعدة يستحضرها كل مسلم في أي معاملة مالية يقوم بها، والتخطيط للكسب وسبل الكسب الحلال، والحرص على ألا يكون في كسبه شبهه، ومحاسبة النفس في ذلك، وتطهير هذا المال بإخراج النصاب الذي أمر الله بإخراجه في أجله المحدد، والوفاء بمن لهم الحق عليه من نفقة أو دين.
الحرص في مسألة التعامل مع الأموال المشبوهة أو دعم من يسعى إلى خراب الأرض.
ولست في هذا المقال أحاول لّي أعناق النصوص كي أوظفها في هذا المفهوم لأن مفهوم الحوكمة في الحقيقة نابع من شخصية الإنسان منذ نشأته، ثم تتابع حتى جاء الإسلام فهذبه وشذبه وأخرجه في أحسن ما يكون ولذلك كانت الحوكمة أساساً أسلوب حياة مورست قروناً عديدة، ثم اكتشفت كمصطلح يمكن توظيفه في المنظمات، وهنا يبقى أن أقول يجب أن نعيد حوكمة ذواتنا حتى ننجح في حوكمة منظماتنا.
كتبه: محمد بن حسن آل شريم
باحث ماجستير
إدارة منظمات غير ربحية بجامعة حائل
إشراف: د. إبراهيم المحسن