بيت من الطين بأعلى طريب، كان هو الأبعد والأخير بجنوب الوادي، بناه مالكه الأساسي الشيخ* عبدالله بن حضرم العابسي "رحمه الله" مابين عام 1355هـ، 1359هـ، وشيَّده المعلم علي بن فهد القُضْعَانْ ومساعده إبنه العم سعد بن علي رحمهم الله جميعاً. والقصر مسمّى أصيل ومتاح لجميع المنازل مهما كانت أحجامها. وتسمى هذه البيوت أيضاً بالحصون وهي تسمية لها دلالة التحصن بداخلها بعكس العراء المكشوف.. وقد تحدثت كثيراً عبر هذه الصحيفة الوطنية "الرأي" حول أهمية صيانة الحصون الطينية والأبار والمواقع التاريخية بطريب. ولا أزال أُناشد بحفظ ما بقي منها قبل الإنهيار النهائي الوشيك.. وقد أستجاب للنداء ربما شخص واحد حاول ترميم قصر تاريخي، لكن العمل لم يكتمل أو تعثر!.
اليوم بفضل الله، أشعر بسعادة غامرة لعودة الحياة لقصر الشايب العابسي "مُشرف". وهو بيت من الطين والبطحاء والأخشاب وعسيب النخيل، وكان بأفنيته ومرافقه لا ينام ولا يهدأ لكثرة حركة العمل والعمال وعبور الناس من عدة جهات، وبجانب سوره الغربي سكن بعضهم لسنوات، ناهيك أنه تحول لفترة زمنية لمركز حكومي "نقطة خويا". ومن أمامه ويمينه كانت أصوات محَّالات السواني الخشبية "الدراريج" التي لا يهدأ أزيزها منذ وقت السّحر حتى المغيب على شفا بئيرين للماء بشماله وشرقه، وحوله تُسمع أجمل الحان الحِداء خلف السواني مبدوءةً بالتهليل وبعبارة "عميت عينٍ ماتصلي على النبي" صلى الله عليه وسلم". وبه وقعت أحداث مهمة وخلافات عميقة واشتباكات قبلية بالأيدي والسلاح الأبيض التي بحمد الله غابت نهائياً منذ عقود زمنية بفضل أنظمة الدولة المباركة وسلطتها العادلة التي فعَّلت المحاكم وفرضت القانون وحلت الخلافات ومنعت التجاوزات وأوجدت المؤسسات.
سُمي القصر بـ "مُشرف"، ولا يُعلم كيف جاءت التسمية، لكن التسمية حقيقية، فهو مكون من أربعة سقوف، ويقع على ربوة مرتفعة كانت هي الأعلى والمشرفة على كل ماحولها وعلى طريب، ومن يصعد إلى قمته اليوم بأعلى سطح غرفة "الخلوة" فسيجد صعوبة لحفظ التوازن إذا إقترب من حافة الجدار الذي لا يزيد ارتفاعه عن نصف متر ونظر للأسفل.
أعتقد أنه يجب كتابة تاريخ طريب بشمولية بأقلام مثقفية ولكن بحكمة وموضوعية وتواضع ومصداقية وبلا عنصرية، على الأقل خلال ألـ 400 سنة الأخيرة، وهذا ممكن.
ومن الأهمية بمكان توضيح أن موقع هذا القصر والأرض التي مساحتها الإجمالية 34610 متراً مربعاً هي ملك قديم لحضرم بن محمد العابسي الذي أمتلكها بأعلى طريب. ولا يُعلم كيف كان ذلك، مع أنه ووالده محمد وأعمامه وأبناء عمّه وبقية إخوته من سكان قرية آل عرفان، وبناءً على ذلك قرر الفتى الشاب حينذاك عبد الله العابسي الرحيل من أملاك عائلته بأسفل طريب إلى ملك قديم لأبيه بأعلاه، وهو الموقع الحالي لهذا القصر، و "بالمناسبة توفي حضرم وإبنه عبدالله لا يزال طفلاً صغيراً ولم يعرفه جيداً كما أخبرني بذلك، وله شقيق واحد هو سعيد بن حضرم وشقيقتين هما نورة وسعيدة رحمهم الله جميعاً. وفي هذا الموقع الجديد كان أول مولود يرزقه الله به إبنته فاطمة بنت عبدالله "رحمها الله".
عوداً على بدأ، منذ 13 عاماً خلت، كان الحلم الشخصي تجاه القرية هو أن أرى هذا القصر شامخاً يعاد ترميمه ليصبح كما هو اليوم في حلَّته الجديدة، وقد حاولت مرتين ولم أنجح، وحاولت ثالثةً وكانت أشد فشلاً وخيبة، فقررت الإبتعاد نهائياً عن الموضوع والإكتفاء بالمرور عليه كلما سنحت الفرصة لإلقاء نظرات الوداع قبل إكتمال إنهياراته، فهو المكان الأول الذي أبصرت به النور لأول مرة كأول حفيد لمؤسسه رحمه الله. تُرك بلا صيانة فأنهار سطحه الأعلى بأثر الأمطار وتراكم حبات البرد، وساءت حالته أكثر. ولكن بعد سنوات أخرى من الإهمال كانت المفاجأة، وإذ بأخي محمد يخبرني بأن القصر وأرض الأجداد التاريخية آلت إليه بالشراء من جميع الورثة، وقال: ستبقى رمزاً طريبياً ولن يزول أسم مالكها وأجداده بحول الله ولن تباع ولن تُجرّف. شعرت بالطمأنينة والسعادة لأن البيع للغير ثم تغيير الواقع كان أكبر هاجس يقلقني ويلاحقني شخصياً، وهو إحتمال كان وارداً بأي لحظة!.
قال لي سترى ما يسرك وجميع محبي هذا البيت وكل من أرتبطوا به.!. شكراً محمد قلت له، هل أنت متأكد مما تقوله، وأنه لن ينهار وسيبقى واقفاً ما أمكن؟!. قال نعم بعون الله أخي وسترى ذلك.. لم أسأله كيف، ولم أستفسر منه كيف أصبح الحلم حقيقة وكيف تمكن من حصر الملكية وتحويلها، لكنه بادرني بالشكر العظيم للعم الشهم الكريم مريع بن عبدالله العابسي، وهو أحد ملاّك البيت والأرض، وتابع قائلاً، لقد كان هو المهندس الذي سعى من تلقاء نفسه وبدون تنسيق وبدون طلب أو تخطيط مسبق وربما أنها مصادفة عجيبة!.
لقد فهمت أن أبو عبدالله هو مشكوراً سبب تحويل ملكية الموقع للأخ محمد الذي بدوره أستجاب له فوراً وبلا تردد وبكل وضوح ونقاء. وهنا أضيف وأقول، ما أروعك يا أبا عبدالله، فأنت الرجل الذي تخرج من مدرسة أبيه بهذا القصر وجميع إخوتك، وأنت من عُرفت بجرأتك ومواقفك الكريمة. والشكر موصولاً لجميع الأعمام الذين وضعوا ثقتهم سواء علموا أم لم يعلموا بأحد أبناءهم وهو المهندس الحاسم محمد بن غانم العابسي، الذي كان والده "رحمه الله" يحترمه وهو صغير جداً! ويراه كالنمر، ويبتسم حينما يراه يكتب بيده اليسرى!.
لا أحد كان يعلم بما سيفعله محمد بـ "مُشرف". والحقيقة أن أحد أسوأ الإحتمالات أن يقوم بهدمه وتخطيط الأرض وبيعها فهي ملكه ومن حقه كما فعل غيره بالوادي وخارجه، وحينها سيتحول المكان إلى سلعة قيمتها رخيصة وحقيرة وتافهة مهما كانت، وسيذهب القصر وتاريخه وأحداثه وتعب مالكه وابناءه إلى عالم النسيان، وسيتم القضاء على جزء من تاريخ العائلة وطريب، لكنه لم يفعل ذلك، بل لقد فاجأنا الأخ محمد بأكثر مما توقعنا وتمنينا، والأجمل أنه وعدنا بالأجمل. هنا قمّة الإيثار، ومثله فقط يتحمل المسؤولية الأخلاقية والإنسانية والعائلية والمكانية التي ضيعها مع الأسف البعض تجاه مواقعهم التاريخية، هذا البعض المحترم يرى أن المواريث المشتركة المهجورة مجرد فلوس وغنيمة، ولا يجب إصلاحها من خلال أحدهم أو بيعها له أو التشارك في الترميم وبدلاً عن ذلك فلتذهب للخراب!، ويعتقد هذا البعض أن القيمة هي الدراهم المعدودة، ولا يعلم أن القيمة الحقيقية هي تلك التي لا تقدر بثمن كبقاء هذا القصر "مُشرف" بتاريخه. وهناك أمثاله الكثير بالوادي الأجمل طريب.
شكراً لصحيفة الرأي على جهودها الواسعة ومساهماتها الفاعلة لخدمة الوطن العزيز والتوعية بحفظ تراثه وبناء نهضته الحالية.
*شيخ بعمره رحمه الله، حتى لا نقع في أخطأ وضعف غيرنا.
@Gen_Abdullah1
عبدالله غانم القحطاني