قد يكون سائداً في بعض البيئات أسلوب المقارنة، مقارنة بين الأشخاص، أو بين أداء الطلاب، أو بين أداء الأفراد العاملين، وغيرها من المقارنات، وهُنا سنُسلط الضوء على المقارنة في بيئات العمل، ومدى ارتباطه بمدى تنشئة الطفل على هذا المبدأ.
على الشخص ألا يضع نفسه أو يضع الآخرين موضع مُقارنة، ولا يسمح بحصول ذلك الأمر؛ لاختلاف الشخصيات والمواقف والبيئات والظروف المحيطة، ولا يوجد هناك قواعد تدعونا إلى أن نُسيّر الأشخاص وفقها، وندعوه إلى تنفيذها دون النظر إلى قدراته ومهاراته وإمكانياته.
إن الدور السامي للشخص المسؤول هو تلمس نقاط قوة أفراده، واستثمارها بما يحقق نتائج مرغوبة للجميع، وتلمس كذلك نقاط الاحتياج والتوجيه إلى تلقِّي التدريب المناسب، فلن ولم يكن الإشارة إلى نقاط احتياجه في العلن وإطلاق الأحكام العامة على أداءه ذات جدوى دون أن يكن في ضوء التوجيه والإرشاد، ولم ولن ستكون المقارنة بين الأفراد ذات أثر حسن، بل قد يمتد أثرها بصورة سلبية على كيان فرد عامل بأداء جيد إلى فرد عامل بأداء مقبول، دور المسؤول مهم جداً للارتقاء والرفع من أداء وإنتاجية فريق عمله، والابتعاد عن إصدار الأحكام دون وضع بصمة تدخله وإدارته. وهنا سيبرز دور الفرد المؤثر بصورة إيجابية على الآخرين، في مدى أثر دوره في توجيه وتحفيز الآخرين نحو التطور والإنجاز، وسعيه إلى توظيف مواهبهم فيما يتوافق مع مهامهم، وذلك سيؤدي إلى تهيئة بيئة عمل تُشجع على الإبداع والابتكار.
وإذا عُدنا إلى المصدر الأساسي لبيئة المقارنات هو أساس تنشئة الطفل، على ماذا أنشأت طفلك ستجده ظاهراً عليه لاحقاً، وفي جميع البيئات بمختلف أحجامها. فعلى سبيل المثال عندما أرى أحد الأمهات تذهب لإلغاء اشتراك طفلها في أحد المراكز الترفيهية، وذلك بسبب تسجيل مجموعة من أطفال ذوي الإعاقة في المركز، هنا كنت أُشير في داخل نفسي لدور الأم الرئيس في تنشئة طفل سليم يتقبل وجود اختلافات الآخرين أو يرفض كل شيء مختلف عما هو مألوف. التنشئة السليمة المتوازنة ضرورة ملحة لما بعد تلك الطفولة، من التعامل مع الآخرين في البيئات التعليمية، وبيئة العمل. لابد من تنشئة الطفل على تقبل اختلافه واختلاف الآخرين، فأنت قد تبني معلماً رائعاً في المستقبل يتفهم احتياجات وقدرات وبيئة كل طالب؛ فيتعامل معه بعدل وليس مساواة.
المقارنة فِكر هادم للكيانات والأفراد، وليس من الصحيح أن يتعامل وفقه الأشخاص، فإذا أتينا للعمل بما يتنافى معه فيعني ذلك أنه دوري كولي أمر أن أرى نقاط احتياج طفلي وأعمل على إصلاحها، وفي الجهة المقابلة لا أُبين أنه لديه مشكلة، فأجعله يتقبل هذه المشكلة والتي قد لا تكون مشكلةً في الأصل بالنسبة له وفي الوقت الحالي، ولكنها من المنظور الأبوي قد تُرى مشكلة، ودورك كولي أمر مهم في تحجيم هذه المشكلة والعمل على عدم اتساعها أو تفاقم تأثيرها، أيضاً دورك مهم في عدم جعل الطفل يتأثر بها ويُلاحظها ويضعها تحت المجهر ويجعل الجميع يُشاهدها، وكذلك الابتعاد التام عن مقارنته بالآخرين وكيف هي مهاراتهم وقدراتهم، بل عليك أن تزرع في الطفل منذ الصغر أن يتقبل اختلاف الآخرين ويتعايش مع اختلافه ويتقبله ويسعد به، فأنت بذلك قد تبني قائداً رائعاً في المستقبل.
أنه لأمر مهم أن تنشئ الطفل على تقبل اختلافه، وإكمال طريقه بثقة رُغماً عن العوائق والتحديات، فلذلك الأثر الحسن على المدى البعيد. حيث أنه كان لدي طالبة وقفت على حالتها في أحد برامج التربية الخاصة وقد كانت ذات مستوى مُتدني، وتقدير ذات مُنخفض، ولديها مشاكل في النُطق، وعدم رغبة بالتحدث مع الآخرين، ومن ضمن أهدافها المرسومة لها أن يتم إشراكها بالمناسبات المدرسية، لاشك أنه هناك بعض الاعتراضات على هكذا أهداف في ضوء الحالة الموجودة، ولكن تم الاستمرار في تدريب الطفلة على عبارات قصيرة وقد يستمر التدريب لفترة تبلغ الشهر، ومن ثم تخرج لإلقاء هذه العبارات أمام الآخرين، وفي ذلك الموقف بدوري أقف في نهاية الحشد، وأنتظرها لتنظر إلي ومن ثم أُبدي لها تشجيعي وفخري بأدائها، ومن هنا كانت انطلاقتها، وأعني بحق هذه الكلمة، من هنا بدأت، وكان انطلاقها في الذهاب للتعرف على أصدقاء جدد في الأماكن العامة والحديث معهم، وانطلاقها في الصف الدراسي رغبة منها في تحقيق المزيد من النجاح والتشجيع، إلى أن أصبحت طالبة من أفضل القارئات الصغيرات بفضل من الله، فلو عدنا إلى مصدر الإشكالية لديها، هي تواجدها بين أفراد يجدونها مختلفة بسبب المُقارنات أيضاً، وما إن تقبلت هذا الاختلاف واستطاعت أن تظهر به وتلقت التشجيع المناسب، وجدناها تُبدع وتتطور في جميع مجالات حياتها، وهذا بدوره أعطى أسرتها دافعًا داعماً للتعاون مع البيئة المدرسية والاستمرارية.
فأنا عندما ألحظ مراحل النمو للطفل فأنا أفعل ذلك لكي أتعرف على ماهية المشكلة وأين تكمن وأعمل بما يتوافق مع علاج مصادرها، وليس بغية المقارنة وتوضيح مواضع الاحتياجات فقط دون تدخل. وعلى كلٍ لكل طفل أو فرد كيان مختلف عن الآخرين، ومحاولة وضع نسخ مُتكررة من أحدهم على أفرادك ليس بالشيء المأمول كونك مسؤول ما سواءً في مُحيط عائلتك أو بيئة عملك.
دائماً وأبداً أكرر في دوراتي أننا كأشخاص لنا دور ما في مكان ما لبناء الآخرين، فنحن لا نبني أو نهدم فرد فقط، بل نحن نبني أو نهدم عائلة، ولك أن تقيس أن كل عائلة لها دور إيجابي في بناء المجتمع بلا شك، فتصرف بعناية.
فاطمة سعد مسلط السبيعي
باحثة دكتوراه وأخصائي مستشار في اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه
@fatimah056