في الوقت الذي نجحت نسبياً أنظمة دول في شرق الكوكب مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة والصين، بأنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتفاوتة والمتقاربة في آنٍ معاً، في احتواء ومكافحة فايروس كورونا المستجدCOVID-19 (الفايروس الصيني كما أسماه الرئيس الأمريكي ترمب مع بداية اكتشاف انتشاره)، نجد أن أنظمة غربية متقاربة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا فشلت عملياً في مواجهة هذا التحدي. وبغض النظر عن أسباب النجاح أو الفشل التي لست بصدد التعمق فيها هنا نظراً لأنها تستحق الدراسة والتأمل في ورقة بحث مستقلة، فلعله من المناسب أن نعيد تقييم أداء الدول (القوية) ذات الباع الطويل في السياسة والاقتصاد والتقدم الصناعي والتقني والعسكري ومن تنادي بحقوق الإنسان في كل غدوة وروحة، في مواجهة هذه الجائحة. أعني بذلك دول الغرب (بنظامها الرأسمالي) المعروف الذي أسس له منظروه السابقون من أمثال (فرانسوا كيناي)، و(جون لوك)، و(آدم سميث).
في مواجهة الجائحة، قامت الحكومة الفدرالية الأمريكية مثلاً بضخ (١٫٥) تريليون دولار لإنقاذ (وول ستريت) وتغطية خسائر خطوط المواصلات، بينما لم يتم استثمار أي جزء من هذا المبلغ في الرعاية الصحية في الوقت الذي يعاني (٣٠) مليون أمريكي من عدم وجود تأمين صحي حيث الخدمات الصحية مخصخصة.
وفي أوروبا شاهدنا سلوكيات لا تنم عن عمق للأمن الاجتماعي في القارة العجوز، إذ عادت بعض تلك الدول إلى القرصنة والسطو على المعدات الطبية والمواد التموينية القريبة من حدودها والمتجهة إلى دول الجوار كما فعلت التشيك وفرنسا حيال الشحنات التي كانت في طريقها إلى إيطاليا المنكوبة بجائحة كورونا، وقس على هذا!
للأسف، الحقيقة صادمة للغربيين أنفسهم، اتضح للجميع بأن النظام الرأسمالي الذي طالما أبهر الكثير من غير أتباعه، قد فشل في إدارة أزمته داخل حدوده فضلاً عن الأزمات الدولية العابرة للحدود، لا سيما وقد سبق ذلك ما ترتب على الأزمة المالية عام ٢٠٠٨م من انهيار اقتصادات دول في جنوب أوروبا وانحدار أمريكا اقتصادياً جراء التمادي في الإقراض الربوي! نعم فشلت الرأسمالية في تحقيق الأمن الاجتماعي بمفهومه الشامل الذي نفهمه ببساطة والذي "يشمل كل النواحي الحياتية التي تهم الإنسان المعاصر، فهو يشمل أول ما يشمل الاكتفاء المعيشي والاقتصادي والاستقرار الحياتي للمواطن" كما يعرفه مصطفى العوجي في كتابه الأمن الاجتماعي. وأرجو من الرأسماليين ومنظري الرأسمالية ومن يؤمن بها (من بني جلدتنا) بشكل أعمى، أن ينتهوا عن التسويق لعولمتها بعد أن فشلت عملياً في إدارة أزمة كورونا العالمية داخل الدول الرأسمالية الكبرى، والأهم من ذلك أن يوقف أولئك الرأسماليون حملات تشويه أنظمة الحكم وأنظمة الإقتصاد التي تقف في الوسط بين الأنظمة والأيديولوجيات الشرقية والغربية. ولنضرب مثالاً، فالنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري بالمملكة العربية السعودية مثلاً أثبت نجاحه في إدارة الأزمات، إذ يركز على بناء الإنسان أولاً والمحافظة المعنوية والحسية عليه كأهم مكون للحضارة، ويتمتع بوجود مقومات استراتيجية تجعله مثالاً يحتذى به دولياً وقد تحدثت عن تلك المقومات في مقال سابق.
ولعل انعقاد قمة استثنائية (افتراضية) لمجموعة العشرين في السادس والعشرين من شهر مارس هذا العام (٢٠٢٠م) برئاسة خادم الحرمين الشريفين بدعوة من المملكة، لحشد الجهود في مواجهة جائحة كورونا، تنطلق من باب مسؤولية هذه المجموعة تجاه المجتمع الدولي اقتصادياً وأخلاقياً، إذ تملك هذه المجموعة (٩٠٪) من الاقتصاد العالمي وثلثي الناتج المحلي العالمي وبها يسكن حوالي (٦٥٪) من سكان الكرة الأرضية.
كما تنطلق الدعوة للقمة من مسؤولية المملكة تحديداً الإنسانية والأخلاقية أولاً ثم الاقتصادية والسياسية، وبما يمكن أن تمرره من قيم ومعانٍ سامية وتجارب، من خلال القمة إلى المجتمع الدولي. وكلنا أمل في التدابير الصحية والاقتصادية المتفق عليها حيال الأزمة، وما يترتب عليها من تعاون دولي لاستعادة الاقتصاد العالمي الذي تأثر سلباً، ومساعدة الدول الموبوءة وأيضاً تلك التي تعاني من قصور في برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية حتى قبل اندلاع أزمة كورونا!
وفي قراءة للمستقبل الاقتصادي، فإن الشركات متعددة الجنسيات ستكون المهيمن الأكبر على الاقتصاد العالمي. وإذ تعتبر هذه المنظومات الاقتصادية امتداداً طبيعياً للرأسمالية التي ثبت عجزها أمام أزمات متكررة مالية وبيئية وصحية وأمنية، فإن علينا -على مستوى صناع القرار الوطني- أن نتعلم الدرس وأن نكون حذرين غاية الحذر من الانغماس في الاستثمارات الدولية متعددة الجنسيات التي قد يصعب الخروج منها عند الأزمات المعقدة المشابهة لأزمة كورونا، لأنها ببساطة تدار بطرق تتجاذبها المصالح الدولية في القرار الاقتصادي الذي قد يشكل محور الأزمات السياسية الخارجية والداخلية، حيث يعتبر الاقتصاد محرك السياسة الأول غالباً، والمال عصب الحياة كما يقال. كما أن هذه المنظومات الجديدة تنظر للمجتمع بعين جشعة لا ترى الإنسان إلا مجرد أداة لتحقيق مزيد من النمو الاقتصادي المادي.
وبالمقابل، بالعودة إلى عام ١٩٩٠م وسقوط آخر معاقل الشيوعية عند جدار برلين المعروف، أدرك العالم فشل النظام الشيوعي الاشتراكي في تحقيق الحياة الكريمة المستدامة للإنسان واستقرار الدولة. فما النظام البديل إذاً؟ هل نجح العالم في تحقيق الأمن الاجتماعي عند اقتباس النموذج الغربي في تطوير الاقتصاد العابر للحدود؟ وهل نجحت العولمة في تقليص الهوة التي تفصل بين الدول الغنية والدول الفقيرة؟ في تقييم الكثير من المراقبين، نجد أن ذلك كله إنما كان تنظيراً تتبناه المدرسة الليبرالية في العلاقات الدولية (Liberalism)، بينما تنتصر المدرسة الواقعية (Realism) في هذا الإطار حيث تقارن النتائج على أرض الواقع فترى أن تلك الأفكار جعلت حياة الإنسان رخيصة في عيون السياسة مقابل استمرار عجلة الاقتصاد والأرباح المادية المترتبة عليها! وللتركيز على الحل عوضاً عن المشكلة، فإن الحل البديل معروف وممكن.
إن نظاماً اقتصادياً وسطاً يستمد نظريته الأساسية وتعاليمه من الشريعة الإسلامية ويركز على الإنسان ويستهدف تحقيق أمنه الاجتماعي هو البديل، قد يأتي من يعتبر هذا الكلام تنظيراً، ولكن الدرس العملي الذي قدمه كورونا للعالم بطريقة إلهية خارجة عن إرادة كل البشر يكفي للرد عليه. واليوم آن للعالم أن يعي إلى أين يتجه، آن للعالم أن يستمع اليوم إلى تجربة السعوديين التي يمكن أن تكون مرشداً للمجتمع الدولي في إدارة الأزمات ومن ثم في تحقيق الأمن الاجتماعي لمواطنيها والمقيمين على أراضيها، في خضم معارك العولمة التي نراها تغرق في وحل الأزمات الصحية والمالية وغيرها، ونخشى أن تغرق الدول "النامية والأقل نمواً" معها!.
إن المرحلة الراهنة التي يمر بها النظام الدولي تستدعي سؤالاً استراتيجياً ملحاً على الأنظمة السياسية والاقتصادية التي تسوده اليوم حول الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأفضل لمواجهة الأزمات الدولية بحيث نحقق الأمن الاجتماعي الأمثل للإنسان على سطح هذا الكوكب، والسؤال الأكثر إلحاحاً هو: كيف سنرى العالم يتصرف بشكل جماعي لمواجهة التحديات المقبلة بعد أزمة كورونا؟ وما هي التغيرات التي ستطرأ على الفكر الاقتصادي والاجتماعي وتعيد تنظيم التعاملات الاقتصادية التي سيطر عليها الفكر الرأسمالي لعقود طويلة، بما يحقق الأمن الاجتماعي؟ وما هو دورنا في المملكة وكتلة الخليج العربي في إحداث التغيير؟
اللواء ط/ر/م عيسى بن جابر آل فايع
باحث/ ش الاستراتيجية والأمن الدولي