في رسالة الماجستير التي كتبتها عام ٢٠١٣م عندما كنت مبتعثاً إلى بريطانيا، أعددت استراتيجية التكامل الاستراتيجي متعدد الأبعاد لدول مجلس التعاون، إذ كان هذا موضوع الرسالة. وكان السؤال محل البحث ابتداءً حول ما إذا كان التكامل الاستراتيجي الخليجي يؤدي بالضرورة إلى تحقيق الأمن الاستراتيجي لدول المجلس؟ وبعد مرور حوالي شهر من البحث ومراجعة ما تم نشره سابقاً حول الموضوع في ما يسمى (Literature Review) وجدت أن الإجابة مفروغ منها ولا تستحق مزيداً من البحث، إذ من المؤكد أن التكامل الاستراتيجي لدول الخليج العربية يؤدي بالضرورة إلى تحقيق الأمن الاستراتيجي لدول مجلس التعاون. عندها انتقلت إلى السؤال الذي أصبح محل البحث وهو: ما هي الاستراتيجية التي تدعم التكامل متعدد الأبعاد لدول مجلس التعاون الخليجي؟
في الحقيقة أنني كمواطن خليجي وقعت بين رؤى ومشاعر متجاذبة ومتضاربة أحياناً. ففي الوقت الذي تتجاذبني مشاعر بالثقة في قياداتنا في دول مجلس التعاون الخليجي والتكامل الاجتماعي بين دول المجلس، والذي لا يتوفر في أي كتلة جغرافية أخرى اليوم من حيث وحدة الدين والعرق واللغة والتاريخ والجغرافيا والعادات والقيم الاجتماعية والتقاليد العامة، تتضارب من الجهة الأخرى أفكار ورؤى لدي ولدى المواطن الخليجي بسبب تأخر خطوة كهذه -أقصد التكامل الاستراتيجي- بالرغم من وجود عوامل التهديد الإقليمي حتى قبل قيام الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩م بسبب المشاريع التوسعية التي تتخادم مع المشاريع الدولية -الغربية تحديداً- على حساب الأمن القومي الخليجي والعربي وتتنافس على ثروات المنطقة.
واليوم تمر المنطقة بتحولات جيوستراتيجية جديدة ومن المتوقع أن تشهد مزيداً من التحولات على الأصعدة: السياسي والاقتصادي والأمني. كما أنها زادت طرق ووسائل الغزو الثقافي والإعلامي على شعوب المنطقة ونشأ مشروع تغيير ديموغرافي طائفي يقوده نظام الولي الفقيه الإيراني في سوريا ولبنان واليمن وكان قد بدأ في العراق ولكن نرى مؤشرات إيجابية تجعلنا متفائلين حول مستقبل العراق بسبب انحسار الحاضنة الشعبية الولائية للمشروع الإيراني ولوجود زخم في التقارب العربي العراقي لاستعادة الوضع الطبيعي القابل للتنمية في العراق ويقود إلى خطوات في طريق التكامل العربي. كما أن المشهدين اليمني والسوري في ظل الانسحاب "الفوضوي" للولايات المتحدة من أفغانستان وما نشهده من تراخٍ أمريكي أوروبي مع التهديد الإيراني لأمن المنطقة وتسخير للجماعات اليسارية المتطرفة لخدمة تلك المشاريع التوسعية، تحتم تحركاً أسرع وأكثر فاعلية واعتماديةً على القدرات الخليجية الذاتية لتحقيق الأمن القومي الخليجي بالتعاون مع مصر والأردن والعراق والسودان وجيبوتي تحديداً وبالتالي تحقيق متطلبات الأمن القومي العربي.
ولذا فإن الحالة الجيوسياسية والأمنية تتطلب إيجاد مشروع عربي يعيد التوازن للمنطقة، ولا بد أن تكون الكتلة الخليجية هي النواة واللب. بدأت رؤية السعودية ٢٠٣٠ بإطلاق برامجها واحداً تلو الآخر، وشهدنا بعض برامجها الاقتصادية تستثمر في دول عربية بشكل لافت، كما أن لدى كل من دول مجلس التعاون رؤية مماثلة تقريباً، وعماد هذه الرؤى الاقتصاد. وشهدنا إنشاء عدد من المجالس التنسيقية الثنائية بين دول المجلس. وشهدنا حركة تنافس اقتصادي أحياناً. لا بأس فالتنافس الاقتصادي يجعل التنمية الاجتماعية والتطورات العلمية والتقنية على أشدها. ولكن لماذا لا يتحول هذا التنافس إلى تكامل؟ وهل آن الأوان أن يكون هذا التكامل الاقتصادي سبيلاً إلى تكامل سياسي باعتبار ما تحقق من خطوات في مجالات متعددة إلى الآن؟ هناك خطوات ضخمة تحققت في المجال العسكري والتنسيق الأمني مثلاً، حيث يعتبر التكامل في هذين الجانبين محفوفاً بتحفظات وقيود أمنية ومالية، إلا أنه تم افتتاح قيادة عسكرية موحدة في الرياض على يد سمو نائب وزير الدفاع السعودي وبحضور أشقائه ممثلي دول المجلس الأخرى، وهذه القيادة اليوم مكتملة الأركان والعقيدة العسكرية وتم تذليل الصعاب لتفعيلها.
إن استراتيجية التكامل الخليجي متعدد الأبعاد (Strategy Of Multi-Dimensional Integration) ضرورية وممكنة اليوم أكثر من أي وقت مضى. فحالة (التعاون) كانت مرحلة وانتهت، ومرحلة (الاتحاد) صعبة قبل أن تتحقق حالة (التكامل الاستراتيجي). وهذه الاستراتيجية كما خلصت إليها الدراسة تجعل الكتلة الخليجية تصنع قرارها الدولي المتعلق بأمنها وأمن المنطقة الاستراتيجي وتفرض مصالحها على القوى الإقليمية والدولية من واقع مقومات ديناميكية جيوستراتيجية أربع (جيوفيزيائية، جيوسياسية، جيواقتصادية، جيواجتماعية). وتقتضي دمج ما يمكن دمجه من قدرات وإمكانات وتوحيد القوانين والتشريعات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والمفاهيم والعقائد العسكرية واستخدام القدرات الأمنية والعسكرية الذاتية وتوحيد السياسة الخارجية تجاه مهددات الأمن القومي الخليجي. وتحتفظ كل دولة بسيادتها في مرحلة التكامل الاستراتيجي. النتيجة بالطبع ستغير مركز منظومة دول المجلس على جميع الأصعدة. فلو علمنا مثلاً أن دولة واحدة اليوم تحتل مكاناً ضمن دول مجموعة العشرين وهي السعودية فإن التكامل الاستراتيجي الخليجي سيجعل المجموعة تحتل المركز (١٢) بين مجموعة العشرين. ولك عزيزي القاريء أن تقيس على هذا .. وأقول: إن قمة مجلس التعاون الخليجي مختلفة هذه المرة في المدخلات الجيوستراتيجية وسنرى مخرجات جيوستراتيجية مهمة ننتظرها كمواطنين خليجيين منذ زمن.
اللواء ط/ر/م عيسى بن جابر آل فايع
باحث/ ش الاستراتيجية والأمن الدولي