أعلنت قيادة التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن وقف إطلاق نار شامل لمدة أسبوعين اعتباراً من يوم الخميس السادس عشر من شعبان (١٤٤١)هـ الموافق للتاسع من أبريل (٢٠٢٠)م قابلة للتمديد. وهذا المنعطف مهم للغاية في تطور الصراع هذه المرة، بعد أن مضت خمس سنوات من الحرب غير المتكافئة (Asymmetric War)، كما يطلق عليها المخططون العسكريون والاستراتيجيون. هذا الإعلان أتى استجابةً لدعوة مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن وتمييزاً لحساسية المرحلة التي تمر بها وخصوصاً في ظل مخاوف قيادة التحالف من تفشي فايروس كورونا (COVID-19) في اليمن في الوقت الذي اجتاح أغلب مناطق العالم، وبالتالي الخوف من مخاطر تفاقم الحالة الإنسانية المتردية في اليمن أصلاً.
ليست المرة الأولى التي تبادر أو تستجيب فيها قوات التحالف لمبادرات وقف إطلاق النار إيماناً منها بالحاجة إلى الحل السياسي الذي ينظر لمستقبل اليمن ليعود سعيداً كما اعتاد أن يسمى. وامتداداً لجهود البناء والتنمية بادرت المملكة العربية السعودية وقوات التحالف في الترحيب بهذه المحاولة التي تبدو جادة هذه المرة لإنهاء الصراع بشكل دائم. إن (وقف إطلاق النار يعكس سعي المملكة لتحقيق الاستقرار في المنطقة) كما صرح سمو نائب وزير الدفاع، الذي أعلن كذلك عن ضخ المملكة لمبلغ (٥٠٠) مليون دولار لدعم خطة الاستجابة الإنسانية للأمم المتحدة لليمن في عام (٢٠٢٠)، و مبلغ (٢٥) مليون دولار إضافية لمكافحة انتشار جائحة كورونا.
ولكن ماذا لو لم يتم التقيد بوقف إطلاق النار من جهة الحوثيين كالعادة؟ وهل يشعر الحوثيون بأهمية بناء الأوطان وتقديم المصلحة الوطنية العامة على المصالح الشخصية الطائفية الضيقة؟ وهل يملكون قرارهم هذه المرة بعيداً عن كونهم أداةً تحركها قوى خارجية لا تريد باليمن ولا بالأمة العربية خيراً؟ هل تستطيع هيئة الأمم المتحدة بل هل تريد إجبار الحوثيين على الانصياع لمقتضيات وقف إطلاق النار؟ لقد ثبت عكس ذلك تماماً في جميع المبادرات السلمية السابقة. وليس أدل على ذلك من إطلاق الحوثيين الصواريخ والمقذوفات والطائرات المسيرة على الأهداف المدنية في مأرب والحديدة وكافة المناطق اليمنية وعلى أهداف مدنية كذلك في المملكة إثر إعلان وقف إطلاق النار مباشرة في كل مرة. كما أن هناك وقوف واضح وغير مبرر من قبل هيئة الأمم المتحدة إلى جانب الحوثيين في مواقف متكررة برزت بشكل أكثر وضوحاً منذ اتفاق (ستوكهولم) في شهر ديسمبر (٢٠١٨)م، حيث بقي ميناء الحديدة (الاستراتيجي) تحت إشراف الأمم المتحدة، إلا أن الأمم المتحدة تركت الميناء تحت سيطرة الحوثيين بتأثير ذلك الاتفاق ليكون ممراً "آمناً" لتهريب الأسلحة والمساعدات المادية والبشرية الإيرانية للحوثيين تحت غطاء "المساعدات الإنسانية". هذه المعطيات تجعل المتفائل يعيد النظر في تحليل ما يجري استراتيجياً!
وبحسب مفاهيم العلاقات الدولية، فإن مصطلح (Failed State) والذي يترجم (بالدولة الفاشلة) يعني انهيار مقومات الدولة من حكومة وقدرة على استمرار تنظيم وقيادة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ضمن حدودها. وبزعم الأمم المتحدة فإن دعواتها لوقف إطلاق النار واللجوء للحل السياسي كلما وجدت الحوثيين -المسيطرين على مفاصل الدولة اليمنية في صنعاء وإقليم أزال- في مأزق، تعزز في نظرها إبقاء "الدولة" ومنعها من الانهيار وكأنها ترى عصابات الحوثي بمنظور الدولة التي تحاول منعها من الانهيار، بدلاً من المضي قدماً في تطبيق قرارها الأممي رقم (٢٢١٦) التاريخي الذي يدعم الحكومة الشرعية وقوات التحالف العربية في وجه التمرد الحوثي (المدعوم من الثورة الإرهابية الإيرانية)! هذا المفهوم كان المبرر أيضاً في عدم تدخل هذه الهيئة وبعض الدول العظمى في الصراع في سوريا حيث اعتبر ما يجري هناك حرباً أهلية! هناك تضارب في المصالح داخل أروقة هذه المنظمة، ولكن من الناحية الأخلاقية يجب عليها وجوباً أن تكون عند ثقة المجتمع الدولي تماماً بنفس القدر الذي تراعي فيه المصالح المشتركة للدول الداعمة لها حسب الموازين السياسية والاقتصادية.
كان لدى القوات اليمنية وقوات التحالف فرصة ذهبية لتحرير الحديدة بالكامل، كمنطقة استراتيجية على البحر الأحمر، عندما بدأت عملية تحرير الحديدة في منتصف شهر يونية عام (٢٠١٨)م. وقد غردتُ بهذا على منصة تويتر في حينها. ولكن حالت عوامل محددة دون تحقيق هذا الهدف، وكان من أهمها تدخل الأمم المتحدة. إن الحل العسكري الذي سيجبر الحوثيين على الاستجابة وتسليم السلاح في حال فشلت عملية السلام لا سمح الله، قد يقتضي عملية عسكرية شاملة لا تبقي ولا تذر، كعمليات (لاينبيكر) الأمريكية ضد القوات المتمردة في فيتنام في سبعينيات القرن الماضي. وتضع اعتبارات التخطيط استهداف القيادة الحوثية ومراكز الثقل لديها وقواتها العسكرية التي سيطرت عليها منذ الانقلاب المشؤوم وقوات ميليشياتها ومقدرات الشعب اليمني وبناه التحتية. وهي أيضاً تقتضي تدمير أعداد بشرية مدنية من الشعب اليمني الذي تختبيء بين جنباته هذه الميلشيات المتمردة دون مراعاة لأخلاق الحرب ولا إنسانية الصراع. وتنفيذ عمليات عسكرية من هذا النوع اليوم معضلة كبرى في حد ذاتها، ليس فقط من باب تكاليف التخطيط والتنفيذ، ولكن الأهم من ذلك الخسائر البشرية والمعاناة الإنسانية والأخلاقية المترتبة عليها. ولذا يصعب الحسم العسكري لتحقيق أهداف قوات التحالف السياسية، وذلك أيضاً يفسر سعي قوات التحالف إلى المبادرات السلمية حتى مع قدرتها على تحقيق أهدافها العملياتية في وقت قياسي.
إن فرصة السلام الدائم هذه هي المخرج الأفضل لجميع الأطراف، وهي مواتية للحوثيين اليوم أكثر من ذي قبل لإصلاح ما أفسدوا في اليمن، لاسيما في ظل الأوضاع المتردية للنظام الإيراني الراعي السياسي والاقتصادي والفكري لهم. عليهم أن يستشعروا المسؤولية تجاه إراقة الدم العربي. كما آن الأوان أن يدركوا حاجة الشعب اليمني للاستفادة من مشاريع إعادة الإعمار التي تقودها المملكة وحققت نجاحات مشكورة في مناطق يمنية عديدة وخصوصاً تلك التي لا تسيطر عليها هذه العصابات وأتباعها. وعلى القيادة الشرعية للحكومة اليمنية أن تكون أكثر تأثيراً وأفضل إدارةً لعناصرها بعيداً عن الانقسامات وخطر الاختراقات الأمنية والسياسية. وعلى الشعب اليمني أن يدرك أهمية الالتفاف حول قيادته الشرعية ونبذ الخلافات المناطقية وتعدد الولاءات، لتحقيق السلام وبسط الأمن ومن ثم التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وعلى الدول الخليجية والعربية التي يمكن أن تسهم في إحلال السلام الدائم من خلال هذه المبادرة، أن تنظر لأمن ومصلحة المنطقة العربية ومستقبلها واستقلال قرارها عن التدخل الأجنبي. هل نرى هذا يتحقق قريباً؟ سنتفاءل ولكن السيف وإن أعجبك لمعانه فهو يعمل فقط لمن يمسك بالنصل!
اللواء ط/ر/م عيسى بن جابر آل فايع
باحث/ ش الاستراتيجية والأمن الدولي
التعليقات 2
2 pings
ابوساري
09/04/2020 في 1:26 م[3] رابط التعليق
بارك الله فيك اخ عيسى شرح وتحليل وافي وكافي
(0)
(1)
Darwish Khalifa
24/03/2021 في 12:29 ص[3] رابط التعليق
مقال رصين، تشكر عليه سعادة اللواء
وأؤكد على ما ختمت به مقالتك، سنتفاءل ولكن السيف وإن أعجبك لمعانه فهو يعمل فقط لمن يمسك بالنصل!
(0)
(0)