هناك مدرستان رئيستان في العلاقات الدولية وتفرعت منهما مدارس أخرى، المدرسة الواقعية (Realism) وهي تؤمن بالوقائع وبالقوة كهدف وكوسيلة ...، والمدرسة الليبرالية (Liberalism) التي تؤمن بالعلاقات البينية القائمة على التجارة والمصالح المشتركة وأن لكل معضلة حل دبلوماسي ..الخ. ومن الواضح أن أي وسط سياسي أو إعلامي عربي يقع بين هذه وتلك من حيث مناقشة التعاطي مع الأنظمة التوسعية غير العربية، مثل المقاربات الإعلامية والسياسية والثقافية مع الشؤون الإيرانية وأذرعها في المنطقة وكذلك في المقاربات الخاصة بالمشروع التوسعي التركي، أو التطبيع مع إسرائيل، وهذا الحراك المتنوع أمر طبيعي.
وإثر فهمنا لطبيعة هذه المقاربات السياسية والفكرية والإعلامية، يبقى علينا في السعودية ودول الخليج والكتلة العربية المعتدلة أن نفكر جماعياً وبصفة مستمرة ومنسقة في الطرق والوسائل التي تحقق استراتيجية مشتركة المضامين لتعزيز أمن واستقرار وتنمية منطقتنا. أما في علاقتنا بإيران وحزب الله فإن التعامل مع فكر متطرف يرتكز على أيديولوجية سياسية غير مقبولة في العلاقات الدولية، يقتضي استراتيجية تجمع بين المدرستين التي تحدثت عنهما آنفاً. والاستراتيجية الأنسب في هذا المقام برأيي هي ما سماه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ب(نقل المعركة إلى الداخل الإيراني). فهناك ما يمكن التعامل معه عسكرياً أو أمنياً وهناك ما يقتضي التركيز على استراتيجيات محاربة الفكر بالفكر.
إذاً، هناك ما ينحصر التعامل معه فكرياً لدحض الأفكار الأيديولوجية المتطرفة وتنوير الرأي العام المحلي والعالمي بالفكر الصحيح المبني على الدليل، وهناك ما يمكن القيام به من جهد عسكري واقتصادي ودبلوماسي على الطرف الآخر من المعادلة. ولهذا فالحرب طويلة وتقتضي حلولاً طويلة الأمد وقد بدأت بالفعل بالضغط الاقتصادي والإعلامي والسياسي الذي يخنق إيران وحزب أردوغان التركي كمركزي ثقل للفكر السياسي المتطرف طالما كان مهدداً للأمن والسلم في المنطقة وربما في العالم. كما أن عمليتي عاصفة الحزم وإعادة الأمل تعتبران بمثابة (التحريم الاستراتيجي) الذي يحرم العدو عسكرياً من مصادره الاستراتيجية قبل استخدامها، ولو أن لي وجهة نظر نشرتها سابقاً حول ضرورة تحرير مواقع ذات أولوية في اليمن مثل الحديدة (ضمن الحل العسكري).
وإذا ما قيمنا الحلول المتاحة للتعاطي مع مصادر التهديد الأمني الوجودي ذات الأولوية، مثل أذرع إيران الإرهابية أو أذرع المشروع التوسعي التركي، وأعني هنا تنظيم الإخوان (المتأسلمين) -كما أسميهم- فإن تدمير حزب الله عسكرياً من خلال حملة عسكرية مثلاً حل لا يحقق الهدف في هذه المرحلة، ولكن التأثير المباشر على إيران (المركز) بالاستنزاف الاقتصادي والعزل السياسي والاستهداف المعلوماتي يضع حزب الله وأعوانه في موضع أضعف وهذا يقتضي تحركاً سياسياً يعري الحزب ويضيق عليه الخناق من داخل الجنوب اللبناني بشرط وجود التعاون اللازم من قبل الدولة اللبنانية لما يحقق الهدف.
ولذا نجد أن الحراك الفكري والثقافي والدبلوماسي والإعلامي الموجه المصاحب للعمليات العسكرية في اليمن مثلاً يعتبر ضرورياً ومكملاً لاستراتيجية نقل المعركة الى الداخل الإيراني لأن التهديد واحد ومترابط. وتصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية والعقوبات الاقتصادية على رموزه والتركيز عليها ونشرها في الأوساط السياسية والإعلامية تحقق أهدافاً أكثر من الاستهداف العسكري للحزب حالياً، كما هو الحال بالنسبة لتصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية، إذ يجعلها في موقع الحصار مما يضعف الموقف التركي دولياً وإقليمياً إذا استمرت بدعم هذه الجماعة ويضعف كل من يدعمها من الأتباع الرعاع، وهذا يسهم استراتيجياً في دعم الجهود الوطنية والإقليمية والدولية لتعزيز أمن واستقرار المنطقة.
اللواء ط. ر. م/ عيسى بن جابر ال فايع
الشؤون الاستراتيجية والأمن الدولي