للزمن دروس ثمينة وقيّمة لا يفطن لها إلا لبيب، ولا يقتبس العبرة منها إلا حكيم، ولا يُقدّرها حق قدرها إلا مَن تقلّب على لَظى الأيام وتجرّع مرارة المواقف، تلك الدروس قد تأتي على طبق من ألم، ولطالما كان الألم خير مُعلّم، ورغم ما في تلك الدروس من تعب؛ إلا أنها تشدّ ظهرك، وتصقل قدراتك، وتؤهلك لمواجهة تحديات الحياة.
كانت فتاة يافعة، يانعة، في غاية الجمال، والعذوبة والرّقة، تشبه الوردة البيضاء في النقاء، والأغصان الخضراء في العطاء..
هي الصغيرة الكبيرة التي جعلتها الحياة كبيرة بوفاة أمها وتحمل مسؤولية أختها وأخيها،
قامت بدور الأم على أكمل وجه من تربية، وتضحية، وتعليم، وعناية، ورعاية، حتى استوى العود ونضجت الثمار.
تقدم لها الخطاب، وكان والدها رغم حاجته وحاجة إخوتها لها يحدث نفسه بأن هذا حقها، وأن عليها أن تعيش حياتها، ولابد أن يأخذ رأيها مهما كان الأمر قاسٍ عليه، إلا أنها كانت ترفض ذلك وبشدة..
ومن بين النجاحات تتسلل الطعنات، وفي قمة الضعف يأتي الغوث، فحين أراد الله وكُتب النصيب تقدم لخطبتها شاب توافرت فيه كل مقومات تكافؤ الزواج سواءً التعليم أو الوظيفة أو الوضع المادي المستقر أو البيت، هذه مجتمعة لم تجعلها تتردد عن قبول الزواج به، لكن الحقائق الغائبة تكشفها الأيام، وماخلف الأسوار والأبواب تظهرها العشرة، فقد كان هذا الزوج فظًا غليظًا، لديه جنون العظمة، فهو لا يعترف بالمرأة كمخلوق مستقل لها كيانها وهواياتها، وخصوصيتها، وبالتالي يحشر أنفه في كل شاردة وواردة، كونه يعتقد أنها من ممتلكاته الخاصة، التي يجب أن تكون في دائرة نفوذه، وتحت تصرفه.
أراد بزواجه منها أن يتملكها ويلغي وجودها، وكيانها، وكل ماضيها، وحاضرها، بل ربما أراد أن يكون هو محور الكون في حياتها لأنه الرجل والرجل في اعتقاده يعني القوة والسلطة والكيان، بينما هي في عقله المريض تعني الضعف والانقياد والطاعة العمياء.
كان يرى أن القوامة مجموعة من الأوامر، والقرارات، والتحديات، لكنه يجهل أن وراء الارتباط الشرعي ارتباط روحي إنساني قائم على المودة والرحمة، وأن في ذمتهِ نفسًا تحييها الكلمة الطيبة وتقتلها الكلمة الجارحة..
كانت تدير ظهرها لكل مايؤلمها وتمضي، البعض قال عنها ضعيفة، والبعض متبلدة، والبعض وصفها بالساذجة، وبقت صامتة، ففي صمتها حكمة لايبلغها إلا من وجد الراحة في الصمت، صمتت أمام ظلمه، وتماديه،ِ وتجريحه، وقسوته، وسلطته.
لكن دوام الحال من المحال، ولابد للشمس أن تشرق ويتبدد الظلام، فيحل صباح جديد، تغرد فيه طيور الأمل، وتتحقق به الأحلام المؤجلة ، فالتغيير والتبديل حكمة الله الباقية وسنة الحياة المتجددة، ففي صباح يوم من أيامها معه أفاقت عليه يئن ويرتجف بسبب أخذه جرعة دواء زائدة، فقد كان ذلك الزوج المتسلط مريضًا نفسيًا، ولم تعلم هي بحاله إلا بعد الزواج، فتحملت، وصبرت، ولم تحدث بأمره أحدًا من قريب أو بعيد رغم تعرضها للإيذاء والقهر والظلم..
شاءت الأقدار أن يكون ذلك اليوم هو يوم رحيله، ودعته وهي تدعو له ولم تدعُ عليه، قالت: "رحمك الله وغفر لك وأحسن إليك، اللهم إني قد سامحته فسامحه وارضِ عنه"، فكان موقفًا عظيمًا من امرأة عظيمة.
فهل بعد هذا السمو من سمو؟!
وهل بعد هذا النقاء من نقاء؟!
هكذا حال الأنثى دائما، فمهما تعاظمت وقست عليها الدنيا والمواقف، هناك زاوية في قلبها تنبض بالرحمة والشفقة حتى مع أعدائها، فكيف مع أقربائها، فهي خُلقت لتكون مصدرًا للسعادة وأيقونة للجمال، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم).
قبل الوداع..
أترككم مع هذه الأبيات الرائعة من الشعر البديع للشريف المرتضى عن الصبر وعواقبه الجميلة:
إِذا لم تستطعْ للرزءِ دَفْعاً
فصبراً للرزيةِ واحتسابا
فما نالَ المنى في العيشِ إِلا
غبيُّ القومِ أو فَطِنٌ تغابى
بقلم /فاطمة الجباري