لست هنا شخصياً مع أو ضد التطبيع العربي مع إسرائيل، ولست بصدد مناقشة إيجابياته أو سلبياته، ولكن من حيث (التقييم الاستراتيجي) وكباحث مستقل في الشؤون الاستراتيجية، لا أعتقد بسهولة إحداث تغير محوري في مسار القضية المركزية بمجرد تطبيع دولة عربية أو أخرى مع إسرائيل دون تقديم تنازلات إسرائيلية تضمن الأمن والسلم الدائمين. ويجب أن لا تغيب عن الإدراك حقيقة ثابتة سواءً كنا من هواة التطبيع أم من أعدائه، وهي أن إسرائيل تسعى لتحقيق هدفها الجيوستراتيجي الذي لا يقف على حدود فلسطين كما ذكرنا في المقال السابق، الجزء (١)، وهذا الهدف ثابت لديهم وموثق لا ينكره إلا جاهل أو متجاهل. وقد نجحت دولة الاحتلال جزئياً وتدريجياً في تحقيقه منذ نكبة (١٩٤٨م) حتى الآن، ونأمل أن تكون أي مبادرات سلام عربية ذات تأثير إيجابي يؤدي إلى تشذيب هذا الهدف. ومن المؤسف أن الرؤى العربية المختلفة الاتجاهات تجاه القضية بدءاً بالفلسطينيين، ساهمت وتساهم بشكل فاعل في هذا النجاح الإسرائيلي، وبهذا ضاعت الأرض العربية التي احتلتها إسرائيل ولن تعود. وبما أن قضيتنا -كأمة- تنحصر في المسجد الأقصى، فإنها أيضاً معرضة للضياع لعوامل متعددة داخلياً وخارجياً يأتي في مقدمتها أن المناضلين المخلصين أصحاب القضية -القلة- يتناقصون، وقد يأتي الوقت الذي لا نجد فيه أحداً على الأرض يستحق الدعم للدفاع عن القضية باعتباره المعني وباعتبار أشقائه العرب داعمين له سياسياً ومادياً ومعنوياً.
ومن المؤسف أن نرى عدد المتنكرين للسعودية ودول الخليج العربي من بعض الإخوة العرب وخصوصاً فئة من الفلسطينيين (المسيّسين) ازداد عقب عقد اتفاقية السلام بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل رغم ما سبقها من اتفاقيات مشابهة مع دول عربية أخرى وما قد يلحق بها كذلك. وهذا الجحود ليس حرصاً منهم على القضية المركزية وإنما حقداً امتلأت به نفوسهم مع غباء سياسي للنخب منهم أو تآمراً مع قوى الشر الخارجية التي لا تريد بالقضية ولا بالأمن القومي العربي خيراً. ويقابلهم فئة أخرى تتبنى موقفاً موالياً لإسرائيل بشكل مطلق كمجرد رد فعل للفئة الأولى، وفي خروج عن المسار السياسي المعتدل المبني على المصلحة الاستراتيجية وأمن المنطقة ومستقبلها. وبالمقابل نجد الإعلام الإسرائيلي يظهر الإسرائيليين بمظهر حمائم السلام استغلالاً لسقوط مثل هؤلاء الحاقدين أو الجاهلين وانتشار حملاتهم الإعلامية بشكل لافت هذه الأيام. وللأسف، هؤلاء الجاهلون من الفئتين ليس لهم علاقة ولاء بالقضية، بل إما مثال لسوء الخلق أو جاهلون بمتطلبات الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية أو متجاهلون لها، وليس لديهم مشروع سياسي يخدم القضية بل يهدفون إلى الحفاظ على مراكزهم السياسية أو تبوء مواقع إعلامية متصدرة أو رفع أرصدتهم المالية أو كل ذلك!
وعندما نعلم أن السياسة لا تدار بالانفعالات ولا بردود الأفعال الشعبية بعيداً عن المصلحة الاستراتيجية، فإن هذا يعني أنه يجب أن لا نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، وبالمقابل يعني أيضاً أن لا نضحي بالقضية المحورية، لمجرد تكرار ارتفاع أصوات مجموعة من (عديمي الأخلاق أو عديمي الفهم) يضرون بقضايانا الاستراتيجية من حيث يدركون أو لا يدركون. وهذا يقتضي أيضاً أن لا نسابق -في السعودية تحديداً- للتطبيع مع إسرائيل أو نصدر إيحاءات بهذا متجاهلين المخاطر المحتملة على أمننا الوطني والقومي والمصلحة الاستراتيجية مستقبلاً! الموقف الاستراتيجي يقتضي التركيز على الأمن والمصالح الاستراتيجية والصبر وتجاهل الفئات التي تستفيد منهم إسرائيل والقوى الأجنبية الفارسية والتركية وغيرها بطريقة مباشرة وغير مباشرة في تحقيق أهداف بعيدة ذات تأثير على أمننا ومصالحنا الاستراتيجية!
ولذلك فإن الموقف الرسمي السعودي متمسك بالمبادرة العربية (٢٠٠٢م) التي أعلنت القيادة السعودية التزامها بها، بشروطها ومبادئها. والموقف السعودي يقول: (ماذا تريدون أيها الفلسطينيون على المستوى الرسمي -الموحد- ونحن معكم على أن تستمروا في الدفاع عن قضيتكم). وهذا يعني أن القيادة السعودية تدرك أن التطبيع (السعودي-الإسرائيلي) لا يخدم مصلحتها الاستراتيجية ولا أمن المنطقة في هذه المرحلة. وقد تتغير استراتيجية التعامل مع إسرائيل والقضية حسب المتغيرات الاستراتيجية والسياسية، حيث لا تأثير عليها للعواطف أو المواقف الشخصية. وبالتالي فإن الأمن الوطني والقومي والمصلحة الاستراتيجية هي العوامل الرئيسية التي تتحكم في قرار التطبيع السعودي مع إسرائيل، وهذا بلا شك يبقي السعودية في الموقف الأقوى على المدى البعيد. وإذا أرادت إسرائيل التطبيع معها -وهي تريد فعلاً ولكن دون تنازلات منها- فعليها أن تعود إلى المبادرة العربية آنفة الذكر.
وأما من أعماهم الحقد عن القضية الأساسية وعن الأعداء الحقيقيين وكذلك من يرزحون تحت الجهل بمقومات الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية ومتطلباتهما، فقد كانوا من أسباب ضياع القضية. فالفريق الأول جعلوا قضيتهم شتم واتهام الأيدي التي امتدت لمساعدتهم بدلاً من الدفاع عن قضيتهم وكسب الرأي العام الخليجي والعربي والوقوف صفاً واحداً إلى جانبهم، هذا إضافةً إلى انقساماتهم التي جعلتنا نقف حائرين مع من نصطف. أما الفريق الآخر فقد صنعوا من الفريق الأول حجةً لحشد الرأي العام والتأثير على القرار الاستراتيجي للتعامل السلبي مع القضية والتطبيع غير المشروط مع إسرائيل. وفي رأيي علينا أن نتجاهل أي دور لكلا الفريقين عند الشروع في صناعة قرارات القضايا الاستراتيجية على المستويين الرسمي والشعبي، فهؤلاء ذاهبون، والأمن القومي والاستقرار الإقليمي والمصلحة الاستراتيجية أولى منا بالتقييم والاهتمام، بعيداً عن العواطف وردود الأفعال.
اللواء ط/ر/م عيسى بن جابر آل فايع
باحث/ ش الاستراتيجية والأمن الدولي