تُعدُ الشهرة من المطالبِ الحقيقيةِ التي أصبحت بارزةً كل البروز في وسطنا الاجتماعي، ولعلي لا أغالي إن قلتُ أنَّها تُعدُ داءَ العصر، تُعدُ الداءَ الخطيرَ المتفشي داخلَ المجتمع، وفي المجالس كلها بلا استثناء، فقد أصبح حبُ الظهور والبروز والبحث عن الشهرة مطلباً أساسياً، وهدفاً منشوداً عند الكثير، بل أصبح الاهتمامُ به، والسعي لتحقيقه من أهم الإنجازات التي يراها البعض إنجازاً عظيمًا يستحق له بذل الجهد والوصب لتحقيقه.
حضرت يوماً ما مناسبةً اجتماعيةً، كان حضورها من متعددي الثقافات والمعرفة، وكالعادة في مثل هذه المجالس تدور بعضُ الأحاديث المتنوعة عن أمور الحياة وما يدور في مجتمعنا، فوجدتُ أغلبَ المتحدثين يحاول البروز والظهور عندما تقترب عدساتُ الجوالاتِ منه، وعند الانتهاءِ من التصويرِ يطلبُ من المصورِ مشاهدةَ التصويرِ؛ ليرى ذلك المحتوى، وكيف صاغه، فتارةً يُؤيد، وتارةً أخرى يطالبُ بحذفِ المحتوى وإعادة تصويرِه، فيعود لتكرارِ ما قاله لنا بهدفِ التوثيقِ، وكأنَّ المعني بالحديث غيرُنا، وكأنَّنا مجردُ أدواتٍ وُجدت لإظهارِه، ونشرِ محتواهِ بالطريقةِ التي يراها مناسبة، وعلينا المكاءُ والتصديةُ في نهايةِ التصويرِ، بل يرى أنَّ ذلك حقٌ له، ويجبُ علينا الإنصات والانتظار حتى ينتهي من محتواه.
فكلُ ما دار في ذلك اللقاءِ لم نستمتعْ به، ولم نستفدْ منه شيئاً، ولو أردنا الفائدةَ مما طُرح، ونعرف ما قيل؟ فعلينا الخروج من ذلك المجلسِ ثم ننظرُ لشاشةِ الجوالِ؛ ليتسنى لنا معرفةَ ما دار في ذلك اللقاء، فقد أصبحت الثمرةُ والفائدةُ بعد اللقاءِ لا أثنائِه، والغريبُ أنَّ الحاضرين يرون أن تلك المشاهدَ تُعدُ تميزاً ونضجاً ولا خجلَ ولا حياءَ في ذلك، والأبعدُ من ذلك أنَّ جُلَّ حديثِهم عن عالمِ الشهرةِ والمشهورين، فمن التقاء بمشهورٍ أو صادَفه يشعرُ بالفخرِ والسعادةِ، ويذكرُ ذلك في كلِ محفلٍ يُدعى إليه، وكأنَّ الدنيا حِيزت له بحذافيرِها.
من زاويةٍ أخرى لو سلطنا الضوءَ على المشهورين ذاتِهم، وأصحابِ العدساتِ، وجدناهم يحظون بمكانةٍ عاليةٍ في مجتمعِنا، ويجدون في المجالسِ كلها استقبالاً عظيماً، واهتماماً كبيراً، وترحيباً مبالغاً فيه، وكأنهم أبطالُ زمانهم، فنجدُ القدرَ والاحترامَ والأولويةَ لهم، متصدرينَ صدورَ المجالسِ، حاصلينَ على كلِ حفاوةٍ واستقبالٍ وتقديرٍ، بل أصبحت معظمُ المجالسِ تُهيأُ للظهورِ والبروزِ، وتُخصّص أماكن للتصوير والمصورين، ولأولئك المشهورين، وبالمقابل نجدُ كبارَ السنِ، وأهلَ العلمِ والدرايةِ، وعلية القومِ، ومن بيدهم الحلُ والربطُ، يُختصرون ويُهمَّشون دون تقديمٍ أو تعريفٍ بهم، ولا احترامَ لسنِهم ولا لمكانتِهم.
يجبُ أن نعلم جيداً أن هذه الظاهرةَ تُعد من عوامل انفضاضِ الاجتماعات، ونفورِ المجتمعات، والقضاءِ على روح اللقاءات، وانتهاكٍ للخصوصيات، وأن السعيَ خلفها مجردُ طرد سراب، وإهدارٍ للوقتِ والجهدِ، وأنها تُعدُ – في المقام الأول – هدماً لعقيدتِنا بما تحمله من رياءٍ وتملُقٍ، وهدماً لقيمنا وهويتنا وأخلاقنا، فقد اتسمت مجالسُنا بالتصنعِ والتكلفِ، والشعورِ بالملل والسذاجة، وأن تلك الأمورَ تقللُ من احترامِ الآخرين لنا، وتُفقدنا التوجيه الصحيح لأبنائنا – إن كان اهتمامنا الشهرة والظهور – كما أنها تُفقدنا خصوصياتنا، فكلُ من دخلَ عالمَ الشهرةِ افتقدَ خصوصيته على مستوى بيته وأسرته وعائلته، فإن أردنا معرفةَ أخبارِ أحدِ الأقاربِ أو حياته فلن نحتاجَ لمن يزودنا بأخباره، فقد أصبح ما داخل بيته مكشوفاً للعالمين، وأصبحت عدستُه تظهره لنا بالصوتِ والصورةِ وبكل ما يدور في يومِه.
ويجب أن نعلم أن جُلَّ أولئك المشهورين لا ثقافةَ ولا علمَ لهم، وأن ما وصلوا إليه كان لمجردِ الحصول على المالِ والمصالحِ الدنيويةِ في المقامِ الأولِ، وأنَّ أغلبَهم لا يسعى لنشرِ فائدةٍ ومعلومةٍ بقدرِ ما هو يسعى لأن يكونَ معروفاً ومشهوراً.
وعلى من يعتريه هذا الميول يعلمُ أنَّ كلَ ما ينشر لديه رقيبٌ عتيدٌ، تصديقًا لقول الله عزَّ وجلَّ: ((مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))، فسيحاسبُ المرء على كلِ ما يبثه وينشره، فلربما نقلَ معلومةً خاطئةً تصل إلى ملايين البشر فتُحدثُ تغييراً في حياةِ بعضهم، وتؤثرُ على سلوكياتهم سلباً، فيكونُ بذلك قد تسببَ في إفسادِ كلِ من لا درايةَ ولا علمَ له، فالعامةُ يجهلون الكثيرَ من أمورِ الحياةِ، وبمجرد أن يروا شخصاً - رتبَ كلامَه، واستخدمَ ألفاظاً تخدمُ محتواه، وأسلوباً تعلمه لتقديمِه أمامَ العدساتِ - تأثَّروا به، وآمنوا بصحةِ ما يقولُ، وعملوا بهِ.