عِندما حَانَ أوانُ قَطفِ الثِّمارِ ... راودَتْني فِكرةُ الكِتابةِ أكثَرَ من مَرَّةٍ حتى قَرّرتُ هذه الْمَرَّةَ أنْ أكتُبَ لكم بعضَ الكلِماتِ التي قد تُلامِسُ قُلوبَ الأشخاصِ الَّذينَ يُشْبِهونَ رُوحي.
ألَا تَعلَمُ أنَّ "مَرْحلةَ الدُّكتُوراه" ليست مَرْحلةً لِلحصُولِ على درجةٍ علميَّة فقط، ولا مجرَّد "برستيج" كما ينظر إليها السَّوادُ الأعظَم، إنّها درجةُ تحمُّلِك الكثيرَ من "الأمانة والتَّكليف"، وهي الرِّحلة التي تمتدّ لسنواتٍ تجني فيها مِن كلِّ بُستانٍ زهرة (الحِلم ، الصَّبْر، التفاؤل، حُسْن الظنّ، الأمانة، العفو، الصَّفْح الجميل، الهَجْر الجميل، تقدير الذَّات، اتّساع الرُّوح، تقبُّل الآخرين بمختلف أفكارهم وبيئاتهم؛ قال الله تعالى في كتابه الكريم: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11])؛ فالرّفعة في الأخلاق، والقِيَم التي تُكتسَب أثناءِ مواجهتِك الكثيرَ من الصُّعوبات والتحدّيات التي رضيتَ أنْ تتحمَّلَها باتّخاذِك قرارَ مُوَاصلةِ العِلْم؛ لهي الفوزُ الأكبرُ الذي يكمُن في تمتُّعِك بالقَدْر الكافي من إحداث التوازُن وَقْتَ أن تتقلُّب الأحداث، ولا يخفى عليك أنها سُنَّة كونيَّة؛ فالحياةُ مُتغيّرةٌ مُتجدِّدة، لا تَرْسُو علَى شاطِئِ الاستقرار، ولا تصفُو لأحدٍ.
في رحلتي تلك لم أكُنْ لأتصوَّرَ أنّ السَّماء التي تتَّسعُ لجميع النَّاجحِين فيها مَن يتصيَّدُ لكلِّ طائرٍ يطيرُ مُحلِّقًا في الفضاء! "ناهيك عن تلك التصوُّرات، لا بُدَّ أن نعيَ بأن اللَّهَ لم يخلُقْنَا عبثًا، ولن يتركَنَا عبثًا، قال تعالى: (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ) [طه: 132]؛ فعلى قَدْر سعيِك ستتوافدُ الخيراتُ والأرزاق، قال تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم: 39].
لم يعلَمْ طالبُ العِلْم أنّ نجاحي لم يأخُذْ من نجاحِه شيئًا، ولم يُدرِك أنّ نجاحي ليس مقتصرًا عليّ، بل يمتدُّ أثرُه ليكونَ سُلّمًا لنجاحِ شخصٍ آخر. لِيَفْهَمْ طالبُ العِلْم أنه كان أحدَ النُّجوم التي اهتديتُ بها وأنارَتْ بصيرتي، وليعلَمْ أن نجاحي ترتّبَ على عدّة نجاحات لأشخاصٍ ناجحِين حَوْلَنا. إنّ الكثيرَ من النَّاس كان ودُّهم لنا "لحاجة في نَفْس يعقوب"؛ فدَعْكَ والتطرُّق لتلك الحاجات، فلا تُفتِّش عن المستور، واتركهُمْ وحاجتَهم؛ اعملِ الخيرَ وانتظِرِ الأجْرَ منَ اللَّه. وأرجو ألَّا يغيبَ عنِ الْبَالِ أنّ البشرَ "ضِعافٌ" لا يملكون لك ضرًّا ولا نفعًا إلا بمشيئة الله؛ فكُنْ قويًّا بإيمانِك ويقينِك بالله، واستمدَّ منه وحدَه القُوَى، وافعَلِ الْخَيْرَ باسمِ الإنسانيَّةِ واسمِ الصَّدَقة، واخشَ اللَّهَ في السِّرِّ قبلَ العَلَن، فإن لم تخشَ اللهَ وأنتَ في أعلى درجاتِ العِلْمِ فلن تُحقِّق معناه والهدفَ منه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28].
إن أجملَ ما يتعوَّدُ عليه الشّخصُ هو الرحمة، وكيف نطلبُ دخول الجنَّة ونحن على عِلْمٍ وافٍ بأنّ دخولَها ليسَ بعملِنَا، إنما برحمةِ اللَّه، ونحن لا يرحمُ بعضُنا بعضًا! علمًا بأن الأغلبيَّة يرفضون سماع هذي الكلمة "رحمتَك" .. تأكَّد أنّ مَن يُخاطبك بها ينطقُها وهو يحملُ في قلبِه حبًّا لك -اللهُمَّ ارحمنا إذا ما صِرْنا إليك، واجعَلِ الرحمةَ في قلوبِنا لكلِّ إنسانٍ ولكلِّ طيرٍ يُسبّحُ بحمدِكَ ويُقدّسُك.
ولتكونَ شخصًا مُميّزًا لا بُدَّ أنْ تراعيَ كلماتِك وتنتقيَها؛ فكلماتُك تعكس تربيتَك وعِلْمَك وأخلاقَكَ وذوقَك؛ فتذوَّق كلماتِك قبل نُطقِها حتى لا تخسرَ عزيزًا؛ فالمتميِّزُون همُ الأشخاصُ المتصالحون مع ذواتهم؛ و"الشّخصُ المتصالِحُ مع ذاته يمتلك القوّة لإخبار شخصٍ آخرَ بأنه جميل، لا ينافسه أحد، ولا يتنافس مع أحد، يمتاز بالسَّلام الداخلي؛ فيُفصِح عن إعجابِه بعقليّة شخصٍ آخرَ، لا ينتقدُ، ولا يشعرُ بالتهديد لمجرَّدِ وجودِ شخصيَّةٍ أخرى مميَّزة"، يُدرِكُ أنّ النجاح يتّسعُ للجميع، وأنّ النعمةَ تأتيه بقَدْر ما تمنَّاها لغيره.
وأهم ما تعلمتُه هو الحاجة الماسَّة إلى ساعة اللَّاشيء، ساعة عطاء الذَّات؛ حيث تكون بعيدًا عن الناس، قريبًا لذاتك تتفقّدُها، تستوعبُ ما يَدُور حولَها، تَصرِفُها عن الضُّغوطات التي أرهقَتْها لفترة "نحن بحاجة ماسَّة أن نتفقَّد ذواتنا بين حينٍ وآخر". فلتتَّخِذِ الأعداءَ السُّلَّمَ الخفيَّ نحو القِمَّةِ، فلو أرادَ الله أنْ يُرسلَ إليك الخيرَ لحملَهُ إليك ولو على ظَهْرِ عدوِّك.
صقلَتْ شخصيّتِي أثناءَ نهاياتِ مرحلةِ الدكتوراه تمامًا؛ فكَمْ أنا ممتنَّة لكلِّ شخصيَّةٍ تعلمتُ منها! وهنا بعض الوصايا والكثير من التصوُّرات والأفكار التي لا بُدَّ من إعادة النظر فيها لكلّ طالب علم: "لا تسمَحْ لأحدٍ أنْ يُجفِّفَ منابعَ قوّتِك، لا تسمَحْ لأحدٍ أنْ يسرِقَ لحظاتٍ من وقتك؛ فوقتُك أثمنُ ما تملِكُ، ومنَ الآنَ فصاعدًا (وصية محبّ): استثمِرْ وقتَك، واعمَلْ على الموازَنةِ في جميعِ مواطنِها (رُوحيًّا، اجتماعيًّا، ثقافيًّا، صحيًّا)؛ فإيَّاكَ إيَّاكَ أنْ تنجحَ في الجانب العلميّ وتفشلَ في الجانب الرُّوحي والاجتماعي! فكلُّها يُكمل بعضُها بعضًا، ولا بُدَّ من اتّزانها؛ فاحكُمْ زمامَ الأُمُور، واحزِمْ فيها بين حينٍ وآخر. والتماسُ سبعين عذرًا حقٌّ للناس عليك، ولكن لا تسمَحْ بسبعين جُرحًا؛ فهذا حقُّ نفسِك عليك، ولا تُغالِط بين العُذر والجرُح، واعلم جيدًا أنّنَا لَسْنَا مجبورين على أن نُداوي الجراح، لكنَّنا مُلزَمُون بألَّا نجرحَ أحدًا ولا نكونَ سببًا في الجُرح. اصنَعْ لنفسِكَ حدودًا؛ فكلُّ شخصٍ يُحدِّدُ حدودَه، ويختارُ مَن يقتربُ منه، يهابُه الكثيرُ ويعجب به الأغلبُ. لا بأس بالأنانية؛ فحبُّ الذات ضرورةٌ في هذا الزمن.
تعلَّم متي تصمت؛ فالصمتُ في وقتِ الإساءةِ حِكْمَةٌ، وفي وقتِ السُّخريةِ رفعةٌ، وفي وقتِ الغضبِ قوَّةٌ. واعلَمْ أنّ مِن أبسط حقوقِك أنْ ترحَلَ إذا جاء وقتُ الرَّحيل، ولا يكُنْ أكبر أخْطَائِك مُحاوَلة إرضاء الآخرين.لا تسمَحْ لنفسِك بالمقارنة؛ فليس مهمًّا أن تكون أفضلَ مِن أحدٍ، المهمّ أنْ تُحيطَ نفسَك بأكثر الناس كفاءةً وعلمًا؛ ليكونوا ضِمْنَ كوكبتِك؛ فنجاحُكَ بملازمة الناجحِين "فلك أن تختار كيف تنجح" واعلَمْ جيدًا أنّ مِن مراتب الذَّوْق ألَّا تنتقد اهتمامات الآخرين بمجرد أنها ليسَتْ في حيّز اهتماماتِك، ولا تستصغِرْ أحلامَ أحدٍ، ولا تُصعِّب الأمور على أحدٍ، دعِ الجميعً يحلمُ، وتأكَّد أنّ أغلبَ المعجبِين هم المعارف؛ فاسعَدْ بوجودهم بين الحين والآخر.
الحَمْدُ للَّهِ على تَعوُّدِ التخطِّي والتجاوُزِ والتَّنَاسِي، الحَمْدُ للَّهِ على فتراتٍ استصعَبْنَا مرُورَها فَمرَّت.
بقلم✍🏻 هند بنت محمد القحطاني