قدمت الطفلة سلمى إلى الحياة مع إطلالة الفجر، ولكن كان قدومها إلى الدنيا مقروناً بصدمة رحيل والدتها بعد ولادتها بسبب النزيف الذي لم يستطعن النساء وقفه، فذلك الزمن كان يفتقد إلى وجود المستشفيات في القرى، ويشرف على الولادة إحدى النساء التي اشتهرت في توليد نساء القرية.
بعد أن لملموا حزن رحيل أم سلمى، قامت خالتها بإرضاعها وضمها إلى طفلتها الوحيدة مريم. عاشت في كنفها حتى بلغت من العمر خمسة أعوام. وفي أحد الأيام حضر والدها بعد أن تزوج بعد وفاة والدتها ولم يقم بزيارتها إلا للحظات طيلة الأعوام السابقة. نادى على والد مريم وبادره بالحديث والجميع يستمع لحديثه الصاعق الذي نزل عليهم بكل الحزن " اسمع وأنا أخوك بنتي سلمى كبرت وأنتم ما قصرتم واليوم هي شرفي ولازم أحطها تحت عيني وتسكن معي".
ففغرت أم مريم وصاحت" دخيلك لا تحرمني منها والله أنها قطعة من روحي" سلمى تمسك بطرف ثياب أم مريم، وتفاجأت أنها ستترك الأم الحنونة التي لا تعرف سواها في هذه الدنيا.
غضب والد سلمى غضباً شديدًا بعد أن تراشق بالكلام معهم، ووجهت له أم مريم كلامًا لاذعاً وأنه ترك ابنته وأهملها، ويريد أن يأخذها كي تخدم زوجته الثانية.. قام هائجًا وسحب سلمى من شعرها وهي تصرخ وتبكي وتمد يدها باتجاه أم مريم، ولكن يدها ظلت تتأرجح في الهواء معلقة.. وأم مريم لا يتوقف لسانها بالدعوات عليه " الله ينصرها عليك يا ظالم، ما تخاف الله".. ودموعها لا تتوقف..
تحركت السيارة مسرعة تقل سلمى ونظرها باتجاه خالتها.. ظلوا واقفين يراقبون السيارة وهي تبتعد عنهم حتى غابت في وسط الغبار الذي التفّ حولها.
وصلت إلى منزلها الجديد، كانت صدمة مذهلة لها.. كل شيء حولها كان أكبر من عمرها.. قذف بها والدها وهو يمسك بيدها إلى زوجتها وقال لها: " انتبهي لها، لا تهرب وخلي عينك عليها، وقفلي الباب ".
أخذتها ورمتها في حجرة لوحدها.. كانت في حالة يرثى لها تبكي وتصرخ حتى دخل عليها والدها وهددها أنه سيلصق فمها..
تغيّرت حالتها بعد أن كانت تلعب ضاحكة منذ ساعات الصباح في بيت خالتها أصبحت تقوم على الضرب من زوجة والدها وتقوم بأعمال المنزل من تنظيف وجلب الماء على القربة التي تحملها على ظهرها، وبعد العصر تذهب إلى المزرعة، لتجلب الأعلاف للبقرة ألتي توليها عمتها رعايتها وتهتم فيها أكثر من اهتمامها بهذه الطفلة المسكينة.
عندما يهبط الليل يداهمها النوم مسرعاً من جراء مشقة النهار الذي تعمل طوال ساعاته.
كانت سلمى جميلة، وذكية.. وهذا ما دعا عمتها إلى تزويجها من شقيقها عندما بلغت من العمر ستة عشر عامًا. حيث توفيت زوجته الأولى ولديه ثلاثة بنات في سن الطفولة، وأشارت عليه بخطبة سلمى. وافق على الفور والدها بعد أن مهدت زوجته لهذا الأمر، وتزوج عبدالله الذي كان على عتبات الثلاثين من سلمى.
رضخت سلمى للأمر الواقع ودخلت بيت زوجها كأم للبنات الثلاث، وقامت على رعايتهم وأحسنت تربيتهن، فالحرمان والبؤس جعلها رقيقة القلب، طيبة المعشر.. فحياتها القاسية التي سبقت زواجها، جعلتها تنضج سريعاً.
أنجبت لزوجها ثلاث بنات أخريات.. وهبت رياح الفرج والتغيير عندما قرر عبدالله بترك القرية والذهاب للمدينة بعد أن اقتنع بكلام أحد أصدقائه عن سبل العيش المتنوع في المدينة، وتعليم البنات التي كانت القرية تعارض هذا الأمر.
كانت البنات الست لعبدالله ينادين سلمى بـ"ماما". وهي لا تفرق بينهن، ووجدت في زوجها بعد العشرة الطويلة، نعم السند بعد الله، وفي بناتها العوض من الحرمان الذي مر بها.
بعد سنوات توفي زوجها فكانت هي بمثابة عمود البيت، والأب والأم في الوقت نفسه. توظفن بناتها بعد تخرجهن معلمات، وعادت للقرية بعد أن وصل لها خبر مرض خالتها، فأصرت على رحيلها معها للمدينة بعد أن وافق أولادها، وقامت برعايتها حتى ماتت.
كانت سلمى هي القدوة لبناتها وهي مصدر الفخر لهن وهي الوطن والملاذ لهن..حتى ماتت وهي مبتسمة راضية من دون أن تمرض بعد أن حضرن جميع بناتها، فخرجت روحها وهي قاعدة بينهن، وابتسامة الرضا على تفاصيل وجهها المنير.
بقلم الطالب / عبدالله بن عطية الزهراني