في البدء يجب أن ندرك ونعرف ونقرّ ونسلّم بأن هناك بونا شاسعا، وفوارق كبيرة بين حياة الحضارة أو المدنيّة أي المدن حتى لوكانت قرية، وبين حياة البادية وسكانها أفرادا كانوا أو جماعات، قبيلة أو حتى قبائل، ومن البديهي القول والتأكيد على أن الإنسان كلما كان سعيدا متمدنا منعما هادئا في بيئته ومحيطه، كان عطاءه متميزا وفارقا لنفسه ولمجتمعه متمازجا مابين الفن والإبداع والذوق وحلاوة الحياة، وهذا حال سكان المدن الحضرية مثل سراة عبيدة وقراها، وطريب؛ لأنهم يعيشون السكينة النفسية وهدوء الأعصاب، لهذا كانوا يبدعون في التغني بالحياة في نشاطاتهم الحياتية وفي مسامراتهم بالخطوة، بعكس أبناء البادية الذين يعيشون حياة كلها موت لا حياة فيها، كلها منغصات ونكد وتتبع للماء والكلأ في كل مكان، وحياتهم (على كف عفريت) لا استقرار فيها ولا طمأنينة ولهذا هم مأزومين في داخلهم في حركاتهم وسكناتهم ولم يكن لدى أبناء البادية الذين نعرفهم من عبيده كلهم أي فن لاقزوعي ولاخطوة، ولاحتى مداقيل ومن شاء أن يدّعي غير قولي هذا، فهذا شأنه لكن الحقيقة ماقلت .
نعود لمحافظة طريب وفن أو موروث الخطوة الذي عرفناه ونعرفه في طريب ولعبناه في صغرنا وكان في طريب فنا أصيلا له أدواته وروّاده ومبدعيه، ومن كافة شرائح المجتمع الطريبي كبارا وصغارا من الخاصة والعامة سواء الشعراء أو اللاعبين المشهورين، أو من يدق التنكه ومن يجيد التداخل بالنجر في اللعب .
مشكلتنا التي زلزلت كيان المجتمع في طريب بالذات، وغيّرته وجعلت عاليها سافلها أن الأدعياء بما ليس لهم اجتماعيا ورياديا وقياديا وثقافيا أكثر من الأصحاء أصحاب القرار في مجتمعهم، فأصبح الداء أكثر من الدواء وهذا دليل على المرض، فطريب موبوء بالجهل الحياتي من الطارئين فيه من أبناءه هذا السلوك المشين الذي يلغي كل شيء من الصغار فقط، طغى على طريب وزاد ، هم تابعون مقلدون لأفكار الآخرين وقد أعود لتبيان قصورهم التوعوي الديني والاجتماعي في مقالة قادمة .
طريب حضارة عظيمة دمره الصغار بجهلهم وتعاليهم على المجتمع وثقافته وموروثه ولدي صورة حضارية أثرية عن طريب ستعيد حسابات الدكتور عيد اليحيا وانبهاره برسوم (جُبّه) التي أثارته، وعندنا مثلها الكثير وقد نشرتها في كتابي طريب، أماهذه الصورة المخيفة إذا تم إسقاطها على واقعنا اليوم فأنها تخيف لدرجة القشعريرة أو الاغماء خوفا من تلاقيها منذ ذلك التاريخ الذي رسمت فيه مع حالة يومنا هذا ، أوقد تكون مفرحة ودليلا على عظمتنا كأمة تنبأ بنا الثموديين أو الجن لا أعرف لمن أنسبها وسوف انشرها قريبا في النسخة المحسنة والمطورة من كتابي طريب وأكاد أجزم أن طريب هو التاريخ إذا لم يكن قبله.
ونعود لطريب العظيم والخطوة فأقول بأمانة أن الخطوة في طريب والتي تشبه خطوة عسير كانت النشاط السائد ولاشيء سواها من الفنون إلا الأناشيد الشعبية في المواسم مثل: الحصاد والبناء والحفر والدواس وغيرها من الممارسات الإنسانية التي يحتاج فيها الإنسان لشحذ همته بالصوت مع نفسه ومع من حوله من أمثاله حتى الزواجات كانوا يلفون في صمت حتى يقتربون من بعض ثم يبدأون في تبادل إطلاق النار من الضيوف والمضيفة وفي بعضها نعرات قبلية، ولا أريد أن أذكر بعض المواقف الطريفة لكنها تحمل تحديا علنيا بين الجميع، بالرغم من الضحك المتبادل وكنت من حضورها والخطوة في الزواجات قليلة لكنها موجودة ولا تكون إلا إذا كان فيه شباب لدى المزوّج أو المتزوّج لأن فيها حرج لبعض الكبار في السن وليس عيبا كما يظن البعض ، حالهم مع الخطوة مثل حال العلماء مع الفنون في المنطقة الوسطى ينكرونها ولا يمنعونها .
الخطوة كان لها رواد من كبار طريب وأعني الكبار كبار القوم في شبابهم (لعبا ودق تنك ولعب النجر) إلى جانب عدد آخر من أبناء الكبار ومن عامة الناس ومن العمالة الوطنية حينها في الأعمال الحرفية واليدوية، وكان فيها من الشباب الفنانين الماهرين ابداعا والعاشقين للحياة ولأهلها بمعنى العشق المعروفين الذين كانوا يلعبون، و(اللمبات الضوئية) والمملوءة بالقاز فوق رؤوسهم، ومن إبداعهم لا تسقط اللمبات وكانوا مشهورين في طريب وكانوا يتسيدون الصفوف في اللعب، وآخرون يلعبون التنكه من صنفي المجتمع، ولبعضهم أسماء فنية لتميزهم عن سواهم فيها، وبعضهم من إبداعه يقولون له سوّا الصفين واختر الأسماء، وبعضهم من طوله يقولون له امسك أقصى الصف من اليمين، وبعضهم من ولعهم يلعب الخطوة، ويرتبون السهرات بدون أي مناسبة وبعضهم يسري لحضور حفل ما في العرين، ويعود لطريب مع الفجر ثم يبدأ بسقيا المزارع بعد أن يعبي ( الماجل ) وهي بركة ماء بدائية من المغرب ليعود له الفجر وهو ممتلئ.
كانوا في حفلاتهم هذه أكثر عشقا وتنظيما من قدرات المستشار تركي آل الشيخ وموسم الرياض، مقارنة بالامكانيات المحدودة ، أحدهم وهو من علية القوم في طريب من ولعه بدق التنكه، وإبداعه رحمه الله يدق التنكه وهو جالس طول الليل وقد منحوه لقبا لا أستطيع ذكره هنا حتى لايعرف رحمه الله واسكنه فسيح جناته، ولوالده ذكر في بطولات طريب، والمبدع الآخر في خريف العمر الآن أحسن الله خاتمته أوهما اثنان بالأصح مرضى.
من أراد أن يعرف نمط خطوة طريب فليبحث عن خطوة عسير الأصلية بدون موسيقى وأعتقد أنها لعبة رجال ألمع تنكه ونجر وصف كله فن .
الأسماء المبدعة والمعروفة بلعب الخطوة في طريب أو قل رموزها كثيرة، لكن لأن الجهل ضارب أطنابه في العقول الصغيرة الحالية في طريب، وسوف يسيئون الفهم حتى لو لمحت تلميحا هنا لا أستطيع ذكرها وقلة هم الذين يعرفونهم، سواء الأحياء منهم أو الأموات رحمهم الله، وأسألوا كبار طريب رجالا ونساء الأحياء من الحضر وليس البدو الطارئين على طريب وتاريخه القديم وفن الخطوة ، ولو قدّر وتشكلت فرقة للخطوة من أبناء طريب المحترمين، وحصل حفل إشهار لهم، فإنني على استعداد لذكر الأسماء التي أعرفها وكانت تلعب الخطوة في طريب، في اجتماع أو محاضرة بالمركز الحضاري، وهم بالمناسبة أكثر قيمة دينية واجتماعية من الذين حرموا هذه اللعبة ويستعيبونها الآن في طريب، والغريب أنك تراهم - من جهلهم -لايستعيبون من يخالف سلوكيا حملة الذوق العام التي انطلقت في منطقة عسير وطريب منهم، لأنهم بدون ذوق .
وفي سياق فن الخطوة هناك قصة طريفة لمثل هذه الحفلات البريئة النقية الخطوة رتب لها اثنان من الشباب الفضوليين المرحين، عند صاحب بيت ولديه أغنام وماعز وأرادو سرقة إحداها وذبحه ليأكلوها، قال أحدهم: عندي السرقة والذبح، قال الآخر وأنا أشغلهم بدق التنكه واللعب ورفع الصوت، لن أتركهم يقفون حتى تنتهي، وحينما دخلا المنزل مرّا بالغنم في (الريشه) وهي غرفة أسفل البيت، وقال أحدهم: إذا صادفنا راعي البيت قل نبي العنز تلعب معنا، وإذا ماصادفناه طلعت بها السطح وأنت ادخل، وابدأ اللعب بسرعة.
وبدأ اللعب حتى لايسمع صوت العنز التي بشمها الذابح وصعد بها فوق سطح البيت وفتح ( الطايه ) وهي فتحه في سطح المنزل، لخروج الدخان من المجلس حتى يسمع ويخبر صديقه إذا انتهى، وفي كل ثانية يقول اللاعب: (سرى)، فيرد الذبّاح: بعد.
ومعنى سرى يعني: التفاعل مع اللعب، لكنه كان يعني زميله الذبّاح، وهكذا دواليك حتى انتهى الذباح، فقال ضارب التنكه (اللّعاب): من في الصف سرى. فلم يجب زميله الذباح. ردد كلمة: سرى .. سرى.. فلم يجب، عرف أنه انتهى، ترك الحفل والتنكه وخرج للحاق به وسريا يشويان اللحم ويطبخان منه، وقد تركا بعض من اللحم في (ديم العنز) لراعي البيت في الدرج حتى يراه . انتهت
كانت الخطوة في طريب عنوانا لحياة الناس ومتنفسا لهم ووسيلة سعادة روحية وجسدية للمتعبين منهم في الحياة، إن كانوا من العاملين أو من العاشقين أو من التائهين بين هؤلاء وهؤلاء ، كان طريب متميز بتنوعه السكاني وإن كانوا كلهم من عبيده وكان بينهم تجانس وتألف روحي عجيب عكس ماهو حاصل الآن .
الخطوة كانت لغة جسد وقلب وعقل ، كانت إبداع من مبدعين موحدين بصدق ونقاء يدعونك للحياة والتفاؤل، وحين غاب الإبداع والمبدعين كان البديل هو المبتدعين الذين يوزعون علينا الحزن إجباريا، وتقرأ في عيونهم وعلى ألسنتهم الموت والعذاب وسوء المنقلب، فتنقلب معهم بدون وعي، وكأنها نهاية حتمية لنا والعياذ بالله بينما الحياة جميلة وجمالها بالفرح وليس الحزن .
أما القزوعي فهو طارئ ، وعلى المستوى الشخصي لايستثيرني، وأقدم قزوعي رأيته في اليوتيوب، كان في اليمن بعد انقلاب السلاّل على ملك اليمن حميد الدين عام 1382هـ. وهم من شمال اليمن وهذا موروثهم وسبق أن قلت أنه وفد إلينا مع آخر القبائل القحطانية التي نزحت مع عودة شهوان بن ضيغم العبيدي بعد هزيمة الدولة الرسولية باليمن، وما عرفناه في المملكة إلا منذ التسعينيات الهجرية وهو لعب تغير سريعا؛ لأنه غير أصيل حتى أدخلت عليه الموسيقى ثم الآن الشيلات وهو لعبة لايستسيغها الإنسان المثقف، وأذكر أنني كتبت عنه قبل أكثر من عام في صحيفة الرأي وقلت إنه يمني وشاطرني الرأي بالتوثيق القارئ الأول في طريب العزيز محمد الجابري .
لو أن هناك وعيا وثقافة مجتمعية عامة وتقدير للأسماء والفعاليات الإنسانية لذكرت الأسماء المعروفة لهؤلاء الأنقياء المبدعين رحم الله من مات منهم وعافى المريض منهم، وعوضنا خيرا منهم في جهّالنا الحاليين من الصنفين، أيامهم كان للحياة طعم واليوم حياة بدون طعم.
في طريب كان للحياة طعما نقيا خاليا من الشوائب، والآن أصبحت عديمة الفائدة بائسة بعد تسيد أتباع البنّا والقرضاوي للساحة، وحرموا كل شيء حتى المسرح المدرسي الذي كان في مدارس طريب حتى عام 1395 هــ، حرموه وكأنه رجز من عمل الشيطان وأصبح الصراع بين جناحي الذباب المتزمتين والجهال البدائين، وأصبح طريب مسرحا لصراع يشبه صراع الديكة بين أتباع البنّا والقرضاوي وبين والجهال القبليين بجهالة والقزوعيين والشيلات وماتت الخطوة والروح الإنسانية البريئة ودفنت حية على طريقة الوأد قديما في الجاهلية للبنات .
الأسماء كثيرة وكبيرة ومحترمة توفى منهم من توفى وبقي منهم أحياء خمسة أو سته لايستطيعون التصريح بما كانوا يؤدونه من فن في لعب الخطوة خوفا من أحفادهم الجهلة .
أتمنى على محافظة طريب أن توقف القزوعي والشيلات من احتفالاتها وتكوّن مجموعة محترمة من أبناء طريب للعب فن الخطوة وهناك منهم على استعداد لهذه المهمة وسموها مجموعة شباب طريب؛ لأنهم يستعيبون كلمة فرقة والخطوة فن طريب الأول والخالد لإسعاد الناس وليس القزوعي وهو موروث يمني خالص.
تويتر: @Mohammed_kedem
أ . محمد بن علي آل كدم القحطاني
التعليقات 3
3 pings
محمـد الجــــــابري
24/12/2019 في 6:11 م[3] رابط التعليق
ارحب ابا ياسر
في الحفيفة ان “مايسمى القزوعي” تراث وفكلور يمني بحت خاص بهمدان “صعدة وما حولها من اقليم “ازال” وتم نقله الى بلاد شرق عسير ونجران عن طريق البادية المحاورة لليمن واستبدل الناس العابهم وتراثهم الاصلي بهذا المستورد للاسف ،،عدا اهالي نجران احتفظوا “ب رزفتهم المشهورة والاصيلة”وحدث دلك في اواخر التسعينات الهجرية ولا يعرف كيف اقحم هذا الموروث في وجدان الناس قصدا او بدون قصد ، لانه لم يكن معروفا ولا ممارسا في بداية التسعينات البته…
اما الخطوة فهي تراث جنوبي عسيري شاركهم فيه غالبية القبائل الجنوبية وعلى الاخص اهالي طريب والعرين وسراة عبيدة وهم محور النقاش ، كان الطريبيون مبدعون في ممارسة اللعب من خلال “الخطوة” بابهى الصور نشيدا وحركة لأنها تمتاز بحركة وانكسارات فنية وصعبة على من لم يزاول تلك الالعاب بحرفية لمدد طويلة ، وكان يتقنها الجميع بكافة اعمارهم واجناسهم …..
في اواسط الثمانينات كان طريب من اغنى المناطق وكان سلة غذا ء هامة جدا “حتى ان المرحوم ابن صمعه المورد الوحيد بالمملكة الذي يزود الرياض بمحصول القمح ،وكانت “الخطوة” بالاضافة للشعراء هم صدى الاعلام وسبيل من سبل الترفيه البريء، وكان احد شعارهم انذاك يقول ويصف تلك الحقبه “بعد الملالاه (الله واكبر ياحرب فالوا في جبل صنعاء —- بين عبد الله السلال ومحمد البدري) واخر يقول(زفرتي زوعت باشوت والطايف وليه—— ثم زاعت محايل واليمن وابها عليه) وهكذا الى ان ادخل لعب “القزوعي “الغريب ،فاهملت “الخطوة الجميلة التي احبها كل سكان المملكة وكان الامير خالد الفيصل من عشاقها، وكان احر احتفال طريبي على شرف وكلاء الوزارات حين زاروا طريب فبل 27 سنة تقريبا وكانت “الخطوة” عنوان تراث اهالي طريب المتحضرين لن اطيل عليكم لكن ما اوردته استاذ/محمد هو عين الصواب ولابد من تصويب المسار..
نحيااااااتي
(0)
(0)
محمد الجـــــــابري
25/12/2019 في 6:34 ص[3] رابط التعليق
*أعتذر عن فقدان بعض النقط -لأن
حاسوبي مصاب بإنفلونزا الحواسيب
تحياااتي
(0)
(0)
البدر
25/12/2019 في 10:07 ص[3] رابط التعليق
أبدعت اخي والأستاذ الفاضل ابو ياسر في هذا الطرح الجميل واوفى الاستاذ محمد الجابري حتى لم يترك مجال للمشاركة في هذا الموروث الجميل على انفسنا الذي كان عشاقه من جيل غالي بدأ يتلاشى فيتسامرون به في افراحهم إضافة إلى فن الزحفة الذي لم تذكره في طرحك وكنت اذكره جيدا في مناسبات الزواج وكان لعشاق هذا الفن حضوره المميز من طريب والعرين بدون دعوة خاصة مسبقة يتخللها حسن النوايا وطيب الأنفس مما يزداد سرورا وابتهاج لاصحاب المناسبة حيث كان يتواصلون بأن لدى ال فلان زواج في ليلة كذا وتنتقل المعلومة من شخص لآخر لحبهم لهذا الموروث بشغف ويهبون بالمشاركة مع جماعة وأقارب صحاب المناسبة، كانت لها نشوتها وابدعاتها وكانو يشاركون بالشعار بابداعات غزلية ومقولة في شتى محاوره ولا يستغرب كما ذكرت مشاركة كبار السن بل هم الأساس في إقامة هذا الموروث الطيب رحم الله المتوفى منهم وابقا الحي بالصحة والعافية… اعتقد بأنه لايزال بمقدور الشباب في طريب الاستعداد لاعادة ما اندثر للوجود ولا يستغرب ما ورثناه من الاباء والاجداد ومن ثم الحفاظ عليه والتفاخر ببقائه فقد شاءت الصدف بحضوري زواج احد أبناء زملائي في مدينة أبها لاحد قبائل عسير بأن تفاجئت بإقامة فن الخطوة وعلى النسق القديم بل الأصيل بأدوات التنكة والنيجر وإضافة برميل لمساندة ايقاعات الخطوة فحقيقة كانت ليلة جميلة جدا في عمري وانا أشاهد هذا الفن العريق بمشاركة كبار السن وصغاره فشكر الله لك اخي ابو ياسر.
(0)
(0)