يعزو البروفيسور الفيزيائي الأمريكي (نيل تايسون) تخلف الأمة العربية عن الركب منذ عام (١١٠٠)م إلى فكرة (أحد المفتين المسلمين القدماء) التي تدعي (أن الرياضيات رجز من عمل الشيطان، ولهذا لم يُعْمِل العرب المسلمون فكرهم ويشتغلوا بالبحث العلمي منذ ذلك الوقت بعد أن أناروا الطريق للبشرية)! وبغض النظر عن مدى دقة توصيف هذا البروفيسور، فإن القصة تتكرر من أصحاب الجهل والهوى عبر التاريخ. والبحث العلمي والتطوير مهم جداً في مقاييس التنافسية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة وفي موازين القوى. وهو جدير بالطرح والمناقشة على المستوى الوطني. ولي تجربة عميقة في مجال إدارة البحث العلمي والتطوير من واقع الخبرة والأعمال التي مارستها حينما كنت مسؤولاً عنه في القوات الجوية الملكية السعودية العملاقة والخصبة بمثل هذه البرامج الاستراتيجية.
وبالرغم من الأموال التي أنفقت على البحث العلمي هنا وهناك والتي تظل أقل مما ينفق عليه في دول (العالم الأول)، كانت التجربة البحثية لدينا في المملكة وفي منطقتنا العربية تفتقر إلى الرؤية الشاملة والنضج وإدراك أهميتها وتسخير الموارد لها وتسخيرها لبرامج التنمية، وذلك مقارنةً بما تحظى به البحوث مثلاً في كوريا الجنوبية أو سنغافورة أو في إسرائيل كأمثلة على دول الصف الثاني. واليوم يخطو البحث العلمي لدينا في المملكة خطواتٍ متفائلة أرجو أن تأخذنا إلى مصاف الدول الصناعية من حيث معايير التنافسية وموازين القوى. أصبح البحث والتطوير حتمياً في ظل الرؤية الوطنية (٢٠٣٠) المباركة التي تستهدف إقامة مشاريع صناعية دفاعية وغيرها سيكون البحث والتطوير أهم منجزاتها الاستراتيجية.
يقوم البحث والتطوير على شراكة ثلاثية بين المستخدم النهائي أو ما يسمى (الجهة المستفيدة)، ومراكز البحث والتطوير سواءً المستقلة أو العضوية في الجامعات أو الشركات الصناعية الكبرى، والقطاع الصناعي. هذه الشراكة الثلاثية إذا فقدت أحد أركانها يتوقف المشروع تماماً، كأن تكتمل متطلبات المشروع مثلاً وينتهي إلى إعداد وثائق التصنيع ثم لا يجد المشروع مستثمراً صناعياً مناسباً. ولضمان نجاح مشاريع البحث والتطوير يتم العمل البحثي من خلال تشكيل فريق من المتخصصين لدى جهة البحث لكل مشروع بحثي، ويتم تطعيمه بعناصر فنية وتقنية من الجهة المستفيدة ومن الشركة الصناعية المستثمرة. تقدم الجهة المستفيدة وثيقة متطلبات المشروع الفنية والتشغيلية. ويقوم فريق البحث والتطوير بتقديم خطة البحث وتكاليفه وينفذ البحث في المدة المحددة والتي غالباً ما تمتد إلى سنوات، وتقوم الجهة أو الشركة الصناعية بتولي التصنيع. وعادةً ما يتم تكليف مدير للمشروع ولجنة توجيهية مشتركة تقوم بتوجيه المشروع باتجاه تحقيق أهدافه بحيث تضمن الوصول إلى المنتج المستهدف، كما تعيد توجيه فريق البحث للتعامل مع المستجدات التقنية والمعضلات الإدارية والمالية.
هذا النموذج تبنته مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية مؤخراً باعتبارها الحاضنة الوطنية ذات الخبرة الطويلة وهي الجهة المسؤولة عن تبني الابتكارات وتسجيلها على المستوى الوطني. وقد توسعت المدينة في الشراكات الأكاديمية والتقنية والصناعية المحلية والدولية، مما أدى إلى توسيع قاعدة المشاركة الفكرية في المشاريع الوطنية الواعدة سواءً في مجالات الدفاع أو الفضاء أو الطاقة أو الإنتاج الزراعي أو الصناعي أو مشاريع المياه أو البيئة أو غيرها. ولكن هذا التوسع الأفقي كان يفتقد ربما إلى التركيز على إنجاز المشاريع ذات الأولوية الوطنية، بما يحقق تأثيراً مباشراً ومستمراً ومتكاملاً مع برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية لتحقيق مستويات مطردة في معايير التنافسية الدولية، بما يوازي الجهود التي بذلت فيها.
وسواءً كانت البحوث ذاتية لدى شركات التصنيع الكبرى أو تتبناها جهات حكومية عسكرية أو مدنية أو تنتجها الجامعات ومراكز البحوث الأكاديمية المتخصصة، فإنها تعتمد بالدرجة الأولى على القدرات البشرية. فالبحث والتطوير هو المعرفة. والاقتصاد المنافس اليوم يقوم على المعرفة. وبالتالي فإن الاستثمار الحقيقي في المشاريع الاقتصادية الكبرى يقوم على المعرفة الفنية والتقنية والإدارية. ومشاريع نقل وتوطين التقنية لا تقوم على معدات ومبانٍ كما يعتقد البعض، وإنما على (مَن) يعرف تحديد معضلات بحثية ذات أولوية ويملك ابتكارات وحلولاً معرفية تسخّر الإمكانات المادية من معدات وتجهيزات وتوظفها لإنتاج ذي جودة ومنافسة أو يحقق الاكتفاء الذاتي على أقل تقدير.
إن لدينا قدرات بشرية تتمتع بالذكاء والحيوية والإبداع، وتحتاج إلى احتواء ودعم وتوجيه. كما أن لدينا مجالات خصبة للبحث والتطوير. وكذلك فإن الرؤية والدعم المادي وهما محركان أساسيان للاستثمار البحثي، أصبحا حقيقة أمام المبتكرين وأمام صناع القرار وكذلك المستثمرين على حدٍ سواء. وبالتالي فإن محاور الرؤية الوطنية التي ترتكز على (مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح) تتحقق بتنمية القدرات الوطنية والاستثمار فيها وتبني المواهب والابتكارات ودعم الأفكار الناتجة عن تجربة أو خبرة، حتى وإن استمر انخفاض سعر البترول أو طالت أزمة جائحة كورونا بآثارها الاقتصادية المضنية أو تعددت الأزمات. وكما أننا عشنا مراحل من الرخاء فقد مرت المملكة والمنطقة بأزمات متنوعة أيضاً، وأزعم أنها تولدت الأفكار الإبداعية ذات التأثير الاستراتيجي وقت الأزمات، سواءً في مجال الفكر العسكري أو الأمني أو الاقتصادي أو السياسة النقدية أو غير ذلك. ولذا فإن الاستثمار في الفكر والعلم أبقى للأجيال وأمتن للاقتصاد،
فرُبّ فكرةٍ ماتت بموت صاحبها .. ورب فكرة عاشت فأحيت لها أُمَما.
اللواء ط/ر/م عيسى بن جابر آل فايع
باحث/ ش الاستراتيجية والأمن الدولي