على إثر التدخل التركي عسكرياً لدعم حكومة السراج في ليبيا ضد الجيش الوطني بقيادة المشير حفتر، الأمر الذي يعتبر استباحة صريحة للسيادة الوطنية الليبية على غرار استباحة سيادة قطر ومثيلاتها، أعلنت مصر مبادرة لوقف إطلاق النار في ليبيا مقرونة بمجموعة من البنود المتعلقة بحقن الدماء ومراعاة مصلحة الشعب الليبي وأمنها واستقرارها واستقلال قرارها. وبالرغم من تأخرها، إذ كان يجب أن تتحرك مصر والدول العربية منذ المؤشرات الأولى للتدخل الأجنبي في ليبيا، فقد لاقت المبادرة المصرية ترحيباً عربياً ودولياً، ولكن قد لا تجد الدعم الدولي السياسي والإعلامي/المعلوماتي والعسكري الملائم نظراً للظروف السياسية والاقتصادية والصحية العالمية الراهنة، وصعوبة المعادلة حالياً على الأرض. ونظراً لتفوق حكومة "الوفاق" عسكرياً على الأرض حالياً فقد رفضت المبادرة، وهذا متوقع من حكومة لا تراعي مصلحة وأمن ليبيا والأمن القومي العربي!
ومن المتوقع وجود خطة لسيناريوهات محتملة بديلة عند فشل مشروع وقف إطلاق النار، ولكن من منظور واقعي، فإن أي خطة بديلة تقتضي تدخلاً عسكرياً عربياً أو دولياً، فالصراع على الأرض لا يحل إلا بالقوة. والحل العسكري عادةً يأتي كآخر الحلول وإلا سيكون مغامرة إن لم تجد دعماً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً عربياً ودولياً. ولا ننسى أن حكومة الوفاق مدعومة من الأمم المتحدة، مع أنها لم تحظ بثقة البرلمان الليبي، وهذا يقتضي جهداً دبلوماسياً حاشداً للحصول على قرار أممي يحقق الهدف من المبادرة. كما يقتضي حشد الجهد المعلوماتي (الإعلامي تحديداً) للتأثير على الرأي العام العالمي، وكذلك المساعدة في حشد رأي عام داخل ليبيا لرفض الاحتلال التركي للأراضي الليبية واستخدامها الغير مشروع واستباحة سيادتها.
وفي اعتقادي: هناك إخفاق مصري عربي دبلوماسي ومعلوماتي في المشهد الليبي عموماً يسبق هذا الإعلان، منذ ظهور مؤشرات هذا التدخل الأجنبي الخطير. ومصر بالطبع تتحمل الجزء الأهم من المسؤولية، والتردد في إعلان القاهرة أو تأخيره غير مبرر ولكن السؤال: هل يمكن لمصر أن تتحمل المسؤولية لوحدها! إذا تم تكليف مصر بالتعامل مع الملف عسكرياً وتأخرت أو أخفقت فهي تتحمل المسؤولية كاملة وهي أول من سيتأذى من ويلات هذا الإخفاق أو التأخير. ولكن بقاء عمليات الجيش المصري داخل حدوده في ظل غياب أي مشروع تدخل عسكري عربي دولي مشترك داخل مناطق الصراع في ليبيا سيجعل التحركات الدبلوماسية أضعف في مصداقية الضغط على تركيا والأطراف المعاونة لها. وفي الواقع، فإن المشكلة الآن لم تعد تتعلق بمصر وحدها فالأمن القومي العربي أصبح مهدداً بالكامل جراء الاختراق التركي العثماني الإخواني ... سَمّهِ ما شئت!
وبالنظر إلى الأطراف الدولية المعنية مباشرةً بأمن منطقة البحر الأبيض المتوسط، نجد أن أوروبا تعاني من الانقسام في صناعة القرار السياسي، وتعاني أيضاً من معضلات اقتصادية متعددة وليس لديها شهية في الانخراط في أي صراع على المدى القريب، كما أنها أصلاً متكئة في أمنها على حلف الناتو (أي أمريكا المنشغلة بشؤونها الداخلية حالياً). وبالدخول إلى دهاليز حلف الناتو نجد أن سياسة التخلص من المسؤوليات الدولية غير المباشرة أصبحت سمة له وخصوصاً في ظل الوضع العالمي المتأثر بالركود الاقتصادي وآثار جائحة كورونا، فيما عدا الإبقاء على روسيا على قائمة المهددات المباشرة الأكبر لأمن أوروبا، إذ لا يزال عامل التهديد هذا يسيطر على تفكير الحلف بالدرجة الأولى. كما أن العلاقة التركية الروسية رمادية بين العداء والصداقة حسب المصالح وتتحدد غالباً جيوسياسياً بيدٍ عليا روسية كما رأينا في سوريا!
والمُعَوَّل عليه بشكل كبير هو الشعب الليبي المعروف عنه رفضه للاستعمار تاريخياً وللتدخل الأجنبي الذي يهدف إلى نهب ثرواته والعبث بأمنه واستقراره عبر مرتزقة عرب وأجانب ليس لهم صلة بالشعب الليبي ولا بالأرض لا تاريخياً ولا جغرافياً ولا ثقافياً. الحل الذي لا بد منه هو الحل العسكري وإن كنا لا نفضله، ولكن يجب أن يكون على أيدي الشعب العربي الليبي. وكذلك فإن التحرك المصري والعربي على مختلف الأصعدة وإن تأخر نسبياً، يظل عاملاً رئيسياً في تحقيق أمن الشعب الليبي واستقرار ليبيا وإغلاق الباب الذي نفذ منه التدخل الأجنبي التركي وغيره. ويجب أن يحظى التحرك العربي بالدعم الإقليمي والدولي وأن لا تتطور الأحداث إلى صراع عسكري متعدد الأطراف على الأرض الليبية يستهلك مزيداً من الدماء والوقت والمال. ونأمل لمساعي حقن الدماء العربية وتحقيق الأمن والسلم والاستقرار في ليبيا النجاح .. سنراقب ونتأمل خيراً.
اللواء ط/ر/م عيسى بن جابر آل فايع
باحث/ ش الاستراتيجية والأمن الدولي