كنت وما زلت مولعةٌ بالكتابة، أحبها ولا أتقنها، حتى جاءت مادة الكتابة الإعلامية لِتُحيي في قلبي شيئاً كنت أحسبه اندثر وعفا عليه الزمن.
وفي ليلة التاسع عشر من رمضان وجدت نفسي بعد محاضرة الدكتور تركي الرشيد أعمل على تكليف كتابة المقال باحثة عن موضوع مناسب، وعلى الرغم من أن تاريخ الاستحقاق النهائي يبلغ مهلة ممتدة ذات أجل طويل تصل حتى الإسبوع الدراسي الثاني من شهر شوال إلا أن قصة الحنين التي جمعتني بالقلم أبت إلا أن أشرع في الوفاء إلى ذلك الصديق الحميم من قافلة ذكريات الماضي.
أرى نفسي وأنا في المرحلة الثانوية عندما حملت على عاتقي كامل المسؤولية عن مجلة الإرشاد الطلابي وكان القلم حينذاك يرتمي بين أحضان أناملي فنسطر معا أجمل العبارات والمعاني لتتردد على مسامعي بعد ذلك أصداء هتافات الثناء والإبداع من معلمات وزميلات، ثم تمضي السنون وها أنا ذا طالبة في الجامعة أقف على أعتاب التخرج في إحدى مراكز التأهيل بالرياض لإنجاز برنامج الطالب المتدرب، كان المركز يضم مختلف الفئات العمرية وكان من أطفال ذلك المركز من هو مقيم بشكل دائم وآخرون يأتون للإستفادة من البرامج المتوفرة خلال فترة النهار ثم يعودون مع ذويهم في نهاية كل يوم.
بدأت حياتي التدريبية في المركز بالتعامل مع الفئات العمرية الصغيرة، وكان قرار المشرفة -نافذة البصيرة- تخصيص معظم مهامي للإعتناء بأولئك الملائكيين من أطفال متلازمة داون والذين كنت أجد في نفسي نحوهم كل الميل والانجذاب، وكأن تلك المشرفة كانت تنظر بعيدا في أعماق روحي وقد تكشفت لها بعض أحداث الزمن القادم عن زائر مرتقب في إحدى محطات سكة سفر!
أما اليوم وبعد انقضاء خمسة عشر عاما، وعلى الرغم من أني هجرت ذلك المركز منذ مدة طويلة إلا أني لا أزال أستيقظ كل صباح لأبدأ يومي برعاية مَلَكٍ صغير من أبناء هذه المتلازمة، ولكن في هذه المرة وعلى خلاف ما كنت عليه في الماضي فإن التعامل لم يعد يقوم على أساس مهني خلا من المشاعر، بل أصبحت أحتضن ذلك الطفل وألاعبه، أركض فيركض إلى جانبي فأسابقه ويسابقني، الآن فقط شعرت بما شعرت به كل أم من أمهات أطفال ذلك المركز، فهذه التجربة وحدها علمتني أكثر من عشرات الكتب بكل ما فيها من مثاليات، علمتني كيف أكون أما..
بت أشعر بالتوجس من سكة السفر هذه التي رحت أسير فيها مع طفلي منذ سبع سنوات، أبحث خلالها عن ملاذ آمن يؤوي صغيري، فالرحلة طويلة شاقة وحاجز الأجل يقف لنا بالمرصاد، فهو لن يسمح لنا بالمواصلة معا حتى النهاية، ومن هنا أتوقف قليلاً لأنظر إلى بقية المسافرين من حولي، فأجد الكثير من نظرات الرثاء والشفقة فأبادر إلى التبرير إليهم بأن مثل تلك الانطباعات ما هي إلا نتيجة الجهل بأطفال هذه المتلازمة، ولكن عندما أقف موقف صدق مع نفسي أدرك بأن هناك -ولسبب مجهول- هوة سحيقة تفصل بين أفراد المجتمع وأطفال متلازمة السعادة كما أحب أن أسميهم.
ولحسن الحظ، فقد بدأت وزارة التعليم في عام 1990م بتطبيق نظام الدمج ولكن على نطاق ضيق وبطريقة الدمج الجزئي، أما التوسع الكبير في تطبيق الدمج التربوي بمفهومه الشامل في المدارس السعودية فقد جاء في عام 1996م.
خطوة دمج أطفال هذه الفئة مع أقرانهم من الأطفال الأسوياء هي قطعاً خطوة موفقة بإمتياز، ليتقبل الأطفال الأسوياء هذه الفئة ولكي يتعلموا كيفية التعامل معهم عوضا عن تهميشهم عند مشاهدتهم في الأماكن العامة أو المستشفيات أو حتى في الطرقات، ففي مثل هذه الخطوة تعزيز للحضور الإجتماعي العام لأطفال ممتلازمة داون..
ولا أستطيع أن أذهب أبعد من هذا في مقالي دون التوقف للإشادة بالحقوق المكفولة لذوي الاحتياجات الخاصة في المملكة العربية السعودية وما تقدمه حكومتنا الرشيدة من رعاية لهم.
ولكن عتبي على آلية التنفيذ في وزارة التعليم، فهل نزل المسؤول في جولات ميدانية ليرى مدى ملاءمة المباني لأبنائنا من ذوي اإلعاقة..؟ هل تم توفير الكوادر البشرية والمادية و كافة الخدمات المساندة لهم !..
لا أدري هل كان من حسن الحظ أنني أعمل بإحدى المدارس التي يوجد بها مسار العوق الفكري؟ أم أن العكس هو الصحيح؟ وفي كل مرة تحتضنني جود أو شادن أتساءل لو كان للمسؤول طفل من هذه الفئة هل سَيودِعُه في مدرستنا!
حصة بنت يحي الزهراني
ماجستير بالعلاقات العامة والإتصال المؤسسي
التعليقات 28
28 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓
حصة الزيادي
28/05/2024 في 6:39 ص[3] رابط التعليق
رائع ما كتبت لامستي قلبي بها 🤍
(0)
(0)
صيته السبيعي
28/05/2024 في 7:30 ص[3] رابط التعليق
أود أن أثني على مقالتك حول متلازمة داون. لقد تناولت الموضوع بحساسية وعمق، مما يعكس تفهماً عميقاً وتعاطفاً مع الأشخاص المصابين بهذه الحالة. عرضك للمعلومات كان شاملاً ومفيداً، مما يساهم في نشر الوعي وتصحيح المفاهيم الخاطئة. شكراً لك على تسليط الضوء على أهمية الدعم الأسري والاجتماعي لهؤلاء الأفراد وتمكينهم من تحقيق إمكاناتهم الكاملة. مقالتك تعد إضافة قيمة للمحتوى التثقيفي المتاح.
(0)
(1)
فاطمة علي الغيثار
28/05/2024 في 7:56 ص[3] رابط التعليق
كلمة شكر كلمة صغيره جدا لك على دعمك شكراً أيتها الام التي تعبت واجتهدات اسمحي لي ان اقول لك من أعماق قلبي انت ام عظيمة على ما بذلته في سكة السفر من أجل اروع واجمل طفل
(0)
(1)
Hanaa
28/05/2024 في 8:12 ص[3] رابط التعليق
سلمت أناملك استاذه حصه
اتمنى لك من القلب ابداعاً يصل بك الى النجوم سطرتي لنا اجمل الكلمات اللتي لامست قلوبنا حفظ الله لك ابنك دمتي بحب 🤍
(0)
(1)
نجلاء الغانم
28/05/2024 في 8:22 ص[3] رابط التعليق
كلمات رائعه وصادقه ..تلامس القلب والمشاعر ..
انجازك يلهم الاخرين ..انتي طاقه ايجابيه اينما حلت ..
(0)
(1)
هدى الزهراني
28/05/2024 في 8:44 ص[3] رابط التعليق
لكل أم مع أبنائها سكة سفر …ولكن حين يكون من ذوي الاحتياجات الخاصه تكون سكة السفر مختلفه…. ولطالما آمنت دائمًا أن الله يختار لهؤلاء الأحباب أمهات من طراز مختلف، تصنع المعجزات -رغم الصعوبات-ليكون صغيرها سعيدًا، آمنًا، محبوبًا ، لاتلقي بالاً بما يقولون.. أو مايعتقدون…
سطرت لنا أ/ حصه رحلتها مع صغيرها لتكون لسان هؤلاء الأمهات العظيمات.. لتعبر في ثناياه عن اللقاء الأول وبداية رحلة المشاعر والدموع والكفاح لمواصلة رحلة السعادة
مقال رائع يلامس المشاعر، ويسلط الضوء على مانحن بحاجة إليه ..مازال تعليم ذوي الاحتياجات الخاصه في مملكتي يحتاج المزيد المزيد من الجهود لينعموا بجودة حياة أفضل.
(0)
(1)
رُدينه علي
28/05/2024 في 9:18 ص[3] رابط التعليق
مقال رائع
(0)
(0)
حكيمه العتيبي
28/05/2024 في 9:35 ص[3] رابط التعليق
سكة سفر
نقف وقفة اجلال وفخر
ونشكر هذه الأم المبدعة
كلماتك الرآئعة في تفاصيل رحلتك لامست مشاعرنا
فلك منا تحية شكر
شكراً لك🌹
(1)
(2)
ريم
28/05/2024 في 9:44 ص[3] رابط التعليق
سكة سفر ببدايه متعبه ونهاية بإذن الله ممتعه…
تفاصيل رحلتك أثارت اعجابي…
ايتها الام العظيمه شكرا لك …
(0)
(0)
مارقه القحطاني
28/05/2024 في 10:28 ص[3] رابط التعليق
انتي الام المثابره العظيمه الرائعه دمتي شي جميلا♥️♥️
(0)
(0)
Roaa
28/05/2024 في 10:37 ص[3] رابط التعليق
👍👍
مقال رائع
جزاك الله خير
(0)
(0)
عقيل فقيهي
28/05/2024 في 10:44 ص[3] رابط التعليق
رائع ما قرأت لامس كثير من مشاعر آباء و امهات .
مقال رائع ومثال ام تفيض بمشاعر الأمومة ولا اروع.
فيه عرض من واقع تجربه مهنيه و شخصيه لمشكله مجتمعيه تواجه الكثير
كل التوفيق و الامتنان.
(0)
(0)
Ghroub
28/05/2024 في 10:48 ص[3] رابط التعليق
كلام جميل ورائع.. ابدعتي 👏
نحن نحبكم متلازمه داون ❤️
(0)
(0)
اللهم رضاك والجنه
28/05/2024 في 11:00 ص[3] رابط التعليق
ماشاءالله لاقوةإلابالله
بارك الله فيك وبعلمك وجهودك وزادك علماًوإيماناًوصعودا
(0)
(0)
Ghroub
28/05/2024 في 11:06 ص[3] رابط التعليق
كلام جميل ورائع.. ابدعتي 👏
نحن نحبكم متلازمه داون ❤️
(0)
(0)
Heassah
28/05/2024 في 2:24 م[3] رابط التعليق
وصلت كلماتك ووصل شعوورك لإعماقنا انتي رمز للعطاء والطموح ..
عنون مقالتك لوحده كفيل بأن اقول انكِ آم
رائعه إستاذة حصه .
لقد كتبتِ وأبدعتِ تمنياتي لكِ دائماً الصعود إلى القمة
(0)
(0)
خولة بنت محمد
28/05/2024 في 3:15 م[3] رابط التعليق
مقال جدا راااائع، اسعد الله قلبك وقلوب من يقومون بجهد مضاعف لأجمل فئة على وجة البسيطة،
طفلك الجميل سيكون بإذن الله كرتك في الآخرة لعبورك الى الجنة بامان
(0)
(0)
نجود الزهراني
28/05/2024 في 5:08 م[3] رابط التعليق
كلام يلامس القلب والروح عشت جميع فترات سكة سفر تسلسل رائع وجذاب ابدعتي 👏🏻👏🏻
(0)
(0)
جميلة العتيبي
28/05/2024 في 6:27 م[3] رابط التعليق
المقال اكثر من رائع وام رائعة ولعل الله اختاركِ لتكوني ام ذوي احتياجات خاصة لانه يعلم بإنك قادرة على صون هذي الأمانة،وطفلك محظوظ لان الله اختار بإن تكوني ام له ام رائعة أتنمى لكِ التوفيق الدايم وان الله يكتب أجرك .
(0)
(0)
ابتسام عبدالله الدخيّل
28/05/2024 في 7:10 م[3] رابط التعليق
ابدعتي استاذة حصة وابدعت سطورك في وصف رحلتك .راقية بمشاعرك واحساسك الواضحة بين سطورك ايتها الام الرائعة 🌹❤️
(0)
(1)
رغد السبيعي 🤍
28/05/2024 في 8:36 م[3] رابط التعليق
استاذه حصه 🤍🤍
وصلت كلماتك ووصل شعوورك لإعماقنا انتي رمز للعطاء والطموح
انتي الام المثابره العظيمه 🤍🤍
ومقال جدا رائع ❤️
(0)
(0)
ساره الشهري
28/05/2024 في 8:39 م[3] رابط التعليق
سلمت يداك على الموضوع الرائع وكلماتك الصادقه حفظ الله لك ابنك الجميل
شكراً لك ولكل ام ومعلمه تهتم بهؤلاء الفئه العمريه الصغيره
كنت بالسابق معلمه بإحدى المدارس الخاصه فعلاً كنت أعاني من قلة توافر الوسائل التعليميه من قبل الإداره وتوفير مكان آمن لهم
وآخيراً أتمنى من كل مسؤول لهذه الفئه العظيمه ان يراعي تصميم بيئه آمنه كالموقع المناسب ومساحه كبيره لسهولة حركتهم وتنقلهم وتوفير وسائل الترفيه والمتعه
رساله لكل ام … إصبري واحتسبي ليس لديك إبتلاء بل هي نعمه اشكري الله عليها
حاولي ان تكوني له سنداً وأملاً وإبتسامه
وثقي بالله وان طفلك هو مفتاح بابك في الجنه بإذن الله ❤️
(0)
(0)
رغد السبيعي
28/05/2024 في 8:42 م[3] رابط التعليق
انتي الام المثابره العظيمه
حفظ الله ابنك فيصل 🤍
(0)
(1)
Dr.Ahmed
28/05/2024 في 10:27 م[3] رابط التعليق
مقال جميل ورائع استاذه حصه..
جمع مابين رقيق العاطفه ورهفها، ثم تحول إلى رساله أشبه بالرصاصه تدق الجرس لتلفت انتباهنا إلى تقصيرنا جميعاً بل وعدم وفاءنا نحو هذه الفئه الجميله والتي بها تنبت زهور أرضنا ومن خلالها نتعلم معنى القلب الطيب جداً.
دام قلمت الجميل والمعبر والعميق استاذه حصه وحفظ الله لك ملاكك الجميل
(0)
(0)
ليلى احمد
29/05/2024 في 2:39 ص[3] رابط التعليق
أم عظيمة وكاتبة رائعة
كعادتها استاذة حصة مبدعة
جميل رقيك
(0)
(0)
هيفاء
31/05/2024 في 11:51 م[3] رابط التعليق
جميله كلماتك وعباراتك تلامس الروح نبعت من أعماق مرشدة تتمتع بحس المسؤوليه والاهتمام وتحمل قلبا طيبا وحنان لم تبخل به إلى انا أصبحت ام لقطعه سكر من متلازمه السعاده أكان العطاء سيتوقف لا بل زاد وتضاعف بحثا عن الأفضل كوني أقوى واستمري بوركت جهودك وسلمت اناملك انتي رائعة.
(0)
(0)
ممدوح
03/06/2024 في 8:25 م[3] رابط التعليق
ما شاء الله مبدعة بالفطرة ونهاية سكة سفرك وصل لهدفك بذكريات جميلة
(0)
(0)
نوره السبيعي
08/06/2024 في 8:33 م[3] رابط التعليق
مقال رائع يمس فئه غاليه سلمت اناملك.
(0)
(0)