لقد اهتم الإسلام بالمحافظة على الضرورات الخمس وهي الدين والنفس والعقل والعرض والمال ولو تأملنا التشريع الإسلامي لوجدناه قد شدد على صيانة هذه الضرورات ووضع الحدود والعقوبات الرادعة ، ولم يترك للناس تقديرها ؛ نظراً لأهميتها، وجُعلت كالسياج المنيع لئلا تُمتهن أو يُعتدى عليها ومن هذه الضرورات حفظ الأنفس المعصومة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه))، وقال صلى الله عليه وسلم : (( لايزال المرء في فسحة من أمره مالم يُصب دماً حراماُ)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَىْ اللهِ مِنْ قَتْلِ اِمْرِئٍ مُسْلِمٍ بغير حق))فالأصل في الدماء المعصومة التحريم؛ ومع ذلك فقد تقع بعض الحوادث والجنايات لأن البشر غير معصومين، والمشكلة الكبرى تكمُن في التعامل مع الجناية إذا وقعت من بعض الأفراد الذين يُنتسب إليهم المجني عليه؛ ولذلك ربما يهبّون لطلب الثأر من غير تريث وتثبُت، وهذه ظاهرة تؤرق المهتمين بالشأن القبلي.
والثأر هو أن يقوم أولياء الدم «أقارب القتيل أو المجني عليه» بقتل القاتل أو الجناية على الجاني نفسه أو أحد أقاربه انتقاماً لأنفسهم دون أن يتركوا للدولة حق إقامة القصاص الشرعي.
وتعتبر ظاهرة الثأر في المجتمع القبلي من أخطر الظواهر الاجتماعية، وهي عادة قديمة قِدَمَ الوجود البشري على سطح البسيطة، وتُعد من أسوأ العادات الاجتماعية الموروثة التي تهدد الأمن والسلم، وتؤدي إلى سفك دماء الكثيرين من الأبرياء وإلى قيام العديد النزاعات القبلية ،
وهذه الظاهرة من بقايا العادات الجاهلية التي كانت منتشرة في الناس قبل أن تشرق شمس الإسلام.
وقد حرم الإسلام الأخذ بالثأر بالطريقة الجاهلية وشرع القصاص فقال تعالى: ((وَلَكُمْ فِيْ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِيْ الأَلْبَابِ))
وقال تعالى: ((وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ))
وأخطر صورة من صور هذه الظاهرة الجاهلية الشنيعة أن يُعتدى على أحد أقارب الجاني الأبرياء، وهذا من أعظم الظلم والجور لذلك فقد بين الله سبحانه وتعالى لنا أن كل شخص مؤاخذ بجريرتهولايتحمل ذلك أحد معه مهما كانت صلة قرابته، فقال سبحانه وتعالى: ((كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)) وقال أيضاً: ((وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)) وقد حذرنا رسولنا الكريم صلى الله وعليه وسلم من ذلك فقال: ((فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ ، أَلا لا يَجْنِي جَانٍ إِلا عَلَى نَفْسِهِ ، لا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ ، وَلا يَجْنِي وَلَدٌ عَلَى وَالِدِهِ ، أَلا إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ))
ولو أعدنا النظر في هذه الظاهرة مرةً تلو أخرى لتبين لنا جلياً أن هناك فروق عظيمة بين القصاص عن طريق الحكم الشرعي وبين الثأر بالعصبية الجاهلية.
ومن أعظم هذه الفروق:
1 ـ أن الأخذ بالثأر عصبية جاهلية، والقصاص حكم شرعي شرعه الله بعد محاكمة شرعية عادلة تقيمها الدولة يَثْبُتُ مِنْ خلالها بيقينٍ أنَّ هذا هو الذي قَتَلَ فلاناً أو جرحه وأنه يستحق القتل أو المعاملة بالمثلبالشروط المعروفة عند الفقهاء ثم يُقام عليه القصاص إن لم يتم العفو عنه.
2 ـ أن القصاص فيه من التطهير للجاني والزجر لغيره ودرء الفتنة التي قد تقع بسبب الثأر مالا يخفى على كثير من العقلاء.
ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَلَكُمْ فِيْ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِيْ الأَلْبَابِ))، وأما الأخذ بالثأر فتتسع معه دائرة المشكلة وتتفاقموربما يصعب حلها بعد ذلك.
3 ـ أن طلب القصاص قد يكون فيه فرصة لصفاء النفوس وفتح المجال للصلح ـ والصلح خير ـ أي أن المجني عليه يُسترضى ـ إن كانت الجناية فيما دون النفس ـ أو أولياء الدم يُسْتَرْضَوْنَ لكي يعفوا عن القاتل ـ إن كانت الجناية قتلاً ـ وفي ذلك من الخير العظيم مالا يعلمه إلا الله قال تعالى: ((وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)).
4 ـ أن في طلب الثأر اعتداءٌ على الأبرياء من أقارب الجاني أو اعتداءٌ على الجاني نفسه ومعاقبته بما هو أعظم من جنايته إذا كانت جنايتة فيما دون النفس بخلاف القصاص فهو معاقبة للجاني فقط ويُقتص منه على قدر جنايته.
ولذلك فالواجب على العقلاء بيان حرمة الدماء المعصومة وبيان خطورة الاعتداء على الأبرياء للناشئة والعامة من الناس وتربيتهم على احترام حياة الناس والتوضيح لهم بأن الأخوة الإيمانية من أقوى الروابط وأعظم الصلات ولا يُمكن قطعها وإن حصلت الخصومة والنزاع فقد أرشدنا تعالى لهذه الأخوة الإيمانية فقال تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) بعد أن بين لنا أنه قد يقع المؤمنين مايقع من الخصومة والقتال لأنهم بشر غير معصومين في قوله تعالى: ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) فتبقى الإخوة بين المؤمنين قائمة وثابتة لاتتزعزع ولاتهزها رياح الفتنة والخصام وكل مؤاخذ بذنبه وجريرته، ولابأس بطلب المعاملة بالمثل في القصاص من الجاني وحده عند التقاضي ((وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ))وأفضل من ذلك نشر روح التسامح والصفح والعفو ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ)) وما أجمل الصبر والاحتساب لمن قدر عليه ((وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ)).
التعليقات 1
1 pings
ابو عبداللطيف
06/07/2018 في 8:17 ص[3] رابط التعليق
نفع الله بكم وبعلمكم.
(0)
(0)