لم تكن أزمة فايروس كورونا المستجد مع مطلع العام (٢٠٢٠) م مجرد أزمة وباء تقتضي التعامل معها بإجراءات صحية بحتة. أتى هذا الفايروس كجائحة عالمية أعادت التفكير في مفاهيم كثيرة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والصحي وحتى الفكري والثقافي. وبعيداً عن المنظور السلبي للجائحة وما أحدثته من آثار اقتصادية واجتماعية وربما سياسية في المستقبل، وذلك في جميع الدول التي أتت عليها -أي على معظم مناطق الكرة الأرضية- فإن الأمر لا يخلو من إيجابيات عديدة، لست بصدد حصرها في هذا المقام فهي في رأيي تستحق الإفراد بورقة بحث مستقلة. ولكن الملفت للنظر بشكل إيجابي وسط ما تم تداوله من تغطيات إعلامية على أوساط الإعلام المتعددة، خُفُوْتُ الكثير من الأصوات النشاز والمنصات التي لا تبث سوى الرخيص من القول والتافه من المحتوى الفكري أو الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي، إذ تضر أكثر مما تنفع!
فمثلاً، خفت منظروا "الحرية" المستوردة من خارج حدود الوطن والخالية من القيم والمباديء الإنسانية الحقيقية. صمتت الأصوات التي تندد بالقيم والمباديء التي تستند إليها الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالمملكة العربية السعودية وتلتزم بها قيادةً وحكومةً وشعبا. مسكين ذلك الذي هجر وطنه قبل الأزمة ولجأ إلى موطن آخر كان يرى فيه استقراراً وسعادةً لحظة غياب الفكر الرشيد وانحطاط الولاء والانتماء، حتى وإن كان ذلك بتغرير من الأعداء. شاهدنا مناظر مؤلمة لبعض الفتيات الهاربات من الوطن، المغرر بهن قبل أزمة كورونا، واللاتي كن ينددن بالقيم الوطنية ويتعرضن لرموزنا الوطنية ويطالبن بحرية منفلتة لا يدركن معناها. غررت بهن حركات مسمومة مستوردة من الخارج، ثم تخلت عنهن كل القوى التي كانت تحركهن والتي غررت بهن في أول أزمة! ومثال تلك الحركات الحركة "النسوية". كانت هذه الحركة امتداداً لما ظهر بشكل منظم في الغرب في أواخر القرن التاسع عشر في ظل انعدام حقوق المرأة آنذاك في تلك المجتمعات. لاحقاً، اقتحمت الحركة عقولاً لم تميز خطر الانسياق خلفها، وتبنتها مجموعة من "الذكور" أكثر من النساء لإسقاط المرأة في مجتمعاتنا أخلاقياً واجتماعياً عن المكانة التي تتمتع بها المرأة أصلاً في وطنها والتي تريدها لها القيادة والمجتمع. المرأة السعودية على وجه الخصوص أنجبت الأجيال وأسهمت في بناء الوطن وكانت ولا تزال وستبقى مثالاً يحتذى في العالم بأسره وفي العالمين العربي والإسلامي على وجه الخصوص.
إن مشهد "الحرية" المستوردة من الحركات النسوية وغيرها لا يعتبر ظاهرةً سياسيةً ولا اجتماعية لدينا. ويجب أن يعلم منظروا الحرية الذين سلطوا أضواءهم وأقلامهم على المجتمع السعودي في وقت ما، أن السعودية كيان مؤسسي متكامل، تحت قيادة وطنية رشيدة، وأن المواطن السعودي ذو دور محلي مسؤول ويحمل رسالة عالمية. هذا الكيان يُصَدّر العلم والفكر الرشيد في الإدارة والقيادة والاقتصاد والسياسة والاجتماع، وفي مفهوم الحرية المنضبطة أخلاقياً وقانونيا. كما يجب أن يعلموا أن الوطن ليس مجرد شعار يرفع أو أرقاماً نباهي بها. الوطن حضن يحتويك عندما يتنكر لك الغرباء وإن أبهرتك الصورة التي يروجون لها فقد يكون ذلك حقهم المصلحي البحت ولكن في ذات الوقت لك حقوق وعليك واجبات وطنية ودولية أيضا.
إن المواطن "العالمي" اليوم –رجلاً كان أو امرأة- ينبغي له أن يتحلى بالمرونة العالية وخصوصاً أثناء الأزمات. كما ينبغي له أن يكون صاحب مباديء وثقافة إنسانية مشتركة، فلا يليق به إلا أن يكون سفيراً لبلده، متعاوناً لبناء الحضارة الإنسانية وتقديم يد العون لمن يحتاجها. وقد مارس المواطن السعودي هذا الدور بالفعل، ولكنه لم يكن معلوماً من قبل الجميع إلى أن ظهرت أزمة كورونا. وخير مثال على هذا الدور، أولئك الأطباء والممارسون الصحيون الذين كانوا ضمن البعثات المتواجدة في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وكندا وأمريكا والإمارات العربية المتحدة الشقيقة وغيرها أثناء الجائحة. كانوا في مقدمة الصفوف في مواجهة الجائحة في البلدان التي ابتعثوا إليها دون تردد. نحن أصحاب رسالة، ولدينا من القيم والمباديء ما ورثناه من آبائنا الأولين الذين عاشوا بها حتى في سنوات الفقر والجوع والمرض وماتوا عليها. والمواطن الحق لا يبيع وطنه، بل يموت دونه. والنماذج السعودية حية وشاهدة على حدود الوطن وفي مواجهة الإرهاب وفي مواجهة الأزمات داخل حدود الوطن وخارجه.
وفي خضم الأزمة أيضاً، برز إلى السطح كل من أو ما يضيف لحياة الإنسان أو البيئة قيمةً أو معنى. أبرزت أزمة كورونا العلم والعلماء الذين طالما غابوا عن الأنظار في المختبرات ومراكز الأبحاث. ظهرت قيمة الطبيب والممارس الصحي والمعلم الذي يتعامل مع الإنسان -محور السياسة والاقتصاد والاجتماع- بشكل مباشر، من خلال منصات رسمية وغير رسمية. في الأزمة أيضاً ظهر رجال الأمن -بمفهومه الشامل- ودورهم الحيوي المتكامل في كل ثغر وعلى اختلاف تنظيماتهم وتفاصيل مهامهم. الأهم من ذلك، أنه حضر الوطن في القلوب وفي العقول وفي الميدان داخل حدوده وخارجها.
ومن القيم التي أدركها مواطنوا العالم -فيما أدركوه إثر أزمة كورونا- قيمة الوطن الأم ومدى إدراك القيادات الوطنية لمسؤولياتها من عدمه، إذ تتجلى روح المسؤولية لدى القيادة الوطنية بوضوح في الأزمات. أدرك المواطن السعودي تحديداً أنه لدى قيادته، أهم بكثير من الثروات المادية. ولعله من المناسب هنا أن أذكّر القاريء الكريم بتوجيه الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله لسفراء المملكة حين اجتمع بهم عام (١٤٣١هـ/٢٠١٠م)هـ حين قال كلمته المشهورة: (احترموا مواطنيكم تحترمكم الشعوب). ليس ذلك غريباً، إنها حقيقة القيادة المسؤولة منذ عهد المؤسس رحمه الله إلى يومنا هذا.
وفي معرض الحديث عن الطاقات الوطنية الفاعلة التي تبني العقول وتؤلف القلوب وتضع القيم الوطنية أولاً نصب عينيها، فقد ارتأيت أن أستعير بيتين من الشعر صدح بها الإعلامي المتألق مفرح الشقيقي، وهو أحد تلك الطاقات التي نفتخر بها، إذ يقول:
أباهي كلما قالوا سعودي ... فهذا المجد غرسٌ من جدودي
وما مَرّتْ بنا الرايات إلا ...... زرَعْنا العِزّ في قمم الحدودِ
وَعَدْنا النصرَ نَجْلِبُهُ إلينا .......... وفُزْنا بالشهامة والوُعودِ
اللواء ط/ر/م عيسى بن جابر آل فايع
باحث/ ش الاستراتيجية والأمن الدولي